Thursday, April 12, 2012

قصة الخرطوم -2

سي أي جي وولكلي C. A. J. Walkely

ترجمة وتلخيص : بدر الدين حامد الهاشمي



تقديم: هذه ترجمة مختصرة لشذرات قليلة من الجزء الثاني من مقال نشر في العدد الثامن عشر من مجلة "السودان في مذكرات (أو رسائل) ومدونات" الصادرة في عام 1935م، للكاتب سي أي جي وولكلي عن تاريخ الخرطوم.  يتكون المقال من 21 صفحة (ولعل هذا هو الجزء الأول فقط  من ما كتبه السيد وولكلي، إذ أنه ينتهي بكلمة "يتبع"). حاولت تلخيص ما رأيته مهما في المقال، والذي ورد في ختام جزئه الأول رسم بديع متقن لميدان المديرية بالخرطوم (ربما في العهد التركي)، لا أدري إن كان الرسم للمؤلف نفسه أم لغيره. أورد المؤلف كذلك في مقاله كثيرا من المراجع التاريخية مما لا يتسع المجال لذكره هنا. المترجم.
ذكر بعض المؤرخين أن موقع الخرطوم الحالي في السنوات التي سبقت عام 1691م كان مجرد معسكر لصيادي السمك والحيوانات البرية. كانت أيضاً نقطة توقف للعابرين للنيل. ولكن قبل ذلك التاريخ كان هنالك وجود دائم لجزيرة توتي، والتي كانت مركزا لأفراد قبيلة المحس الذين يدعون أن أصولهم تنحدر من الخزرج، تلك القبيلة العريقة في الجزيرة العربية. في حوالي عام 1691م هجر رجل دين مسلم مشهور بالعلم والصلاح هو الفكي أرباب العقائد جزيرة توتي واستقر في الخرطوم، وبنى بيتا كان هو البيت الوحيد في ذلك الزمان الذي تدل ملامحه على إنه بيت "دائم". تقاطر حول منزله عدد من الجعليين والمحس من مريديه، وأقاموا لهم منازل، وتطورت تلك القرية وكونت فيما بعد ما عرف بالخرطوم.
بحسب أحد اللهجات المحلية المتداولة تعني كلمة "الخرطوم"  خرطوم الفيل، وقد تشير إلى ذلك الشريط الضيق من الأرض الممتد بين النيلين الأزرق والأبيض، والذي يشبه خرطوم الفيل. يعتقد الرائد جي. أ. جرانت (والذي كان قد وصل للخرطوم في عام 1863م مع حملة الرائد سبيك الاستكشافية لمنابع النيل) أن اسم الخرطوم مشتق من اسم زهرة القرطم (Carthamus tinctorius) والتي يسميها الأهالي جارتون، وتزرع بكثرة في مصر ويستخدم زيتها للحرق. هذا تفسير مبتكر ولكنه يفتقر للسند. 
كان للفكي أرباب العقائد طالبين من "حيرانه" هما الشيخ خوجلي، والشيح حمد ود أم مريوم. دفن الشيخ خوجلي في قبة في (حلة خوجلي) المسماة عليه، والآخر في قبة مجاورة في (حلة حمد).
قام الطبيب ام. بونست في عام 1698م برحلة عبر النيل؛ بيد أنه فشل في الوصول إلى الخرطوم. حاول مرة أخري في العام الذي تلاه، ووصل إلى منطقة "قري"، قرب شلال السبلوقة، ومنها سافر عن طريق البر إلى سنار عبر غابات كثيفة من أشجار السنط. كذلك فشل الرحالة جيمس بروس (بحسب ما جاء في كتابه "رحلات لاستكشاف منبع النيل" والصادر في أدنبرة في عام 1790م. المترجم) في الوصول للخرطوم في رحلته من سنار إلى شندي، ولكنه زار الحلفايا ووصفها وصفا ممتعا. قال عنها إنها بلدة كبيرة وجميلة ولطيفة، بها نحو 300 منزل طيني مسور. من سبل كسب العيش في الحلفاية آنذاك (وكذلك في أغلب المناطق حتى أتبرا) هو نسج الدمور. بالحلفاية أشجار نخيل غير مثمرة، والناس بها يأكلون القطط والتماسيح وأفراس النهر (القرنتي)، والتي تكثر في تلك المنطقة.
أنشئت في انجلترا في عام 1788م جمعية أو رابطة لمستكشفي المناطق الداخلية في أفريقيا. بعد عام من ذلك التاريخ بعثت تلك الجمعية بالأمريكي ليديارد من مصر للقيام برحلة في أعماق أفريقيا. وصف الرجل فيما بعد القوافل التي كانت تسافر من مصر إلى سنار  (على مسافة نحو 600 ميلا) محملة بالحلي والصابون والأمواس والمقصات والمرايات وخرز السكسك والملايات الحمراء (لعله يقصد الفرك! المترجم). تعود تلك القوافل إلى مصر ببضائع سودانية تشمل الصمغ العربي وريش النعام وسن الفيل، والجمال والعبيد.
وصل الخرطوم في نهاية عام 1820م الفرنسيان كلود وليتوزيك (في رفقة ستة رجال)، وعبرا بصعوبة بالغة النهر (لم يحدد الكاتب المقصود بالضبط من كلمة النهر هنا. المترجم) إلى نقطة أطلقا عليها "رأس الخرطوم". وصف كلود في كتاب له صدر عام 1826م تحركات جيش محمد علي باشا لاحتلال السودان. خلال ثلاثة أيام كاملة استطاع ذلك الجيش (بعربه وتركه، وإبله وخيله) عبور النهر إلى الضفة الأخرى في عملية عالية الصخب، وشديدة الارتباك، وبالغة الفوضى. عبر بعض الجنود النهر سباحة، بينما انبطح بعضهم على قطع من الخشب أو قرب (جمع قربة) جلدية منفوخة، بينما تشبث البعض الآخر بذيول خيولهم، أو ركبوا على ظهور جمالهم. بهذه الطرق المتباينة عبر نحو 5500 جندي ذلك النهر، وغرق منهم نحو 30    رجلا و150 من الإبل والخيل. تعجب الكاتبان من قلة الخسائر في الأرواح مع كل تلك الفوضى العارمة.
كان خليفة/ حاكم الخرطوم عند وصول جيش محمد على باشا لها هو شيخ أرباب ود كامل ود الفكي علي، حفيد الفكي أرباب العقائد، والذي كان قد هاجر من توتي للخرطوم في نحو عام 1691م. عندما قتل المك نمر إسماعيل باشا في شندي، قام الدفتردار محمد بيه الأسطنبولي (ذلك القائد الشهور بشدة القسوة) بمجزرة لكل كبار رجال السودان ومشايخه. أمر الرجل بتدمير مسجد شيخ أرباب، وجاء بالشيخ، وأوثق رباطه بالحبال في فوهة مدفع، وأمر به فأطلق في الهواء، وتناثرت جثة الشيخ في الهواء (هل من حاكم سوداني يطالب تركيا الحالية بالاعتراف بمجازرها في السودان، مثلما يطالبها العالم الآن بالاعتراف بجرائمها في حق الأرمن، أم أن الاستثمار في مجال المطاعم والحلويات أهم؟ المترجم). كان عبد الرحمن ود محمد (ابن أخ شيخ أرباب)  هو آخر خليفة للخرطوم من نسل الشيخ الكبير، وهو مدفون في الخرطوم بحري.
تثبت خريطة أفريقيا في أطلس d’Anville’s General Atlas   الصادر في عام 1729م جزيرة توتي في موضعها الجغرافي الصحيح، بينما تم حذف تلك الجزيرة في خريطة لأفريقيا صدرت بعد ذلك في عام 1800م للبريطاني ويليامسون، ولكنها ذكرت موضع "أمدرمان" و"الحلفايا"! 
ليس هنالك اتفاق بين المؤرخين حول من هو أول من أسس الخرطوم الحديثة، إذ أن المدينة وكل وثائقها قد دمرت بالكامل في المهدية. ظهرت خريطة إنجليزية لـ "أفريقيا وما تم اكتشافه فيها" في عام 1817م، لا تشير لأي مدينة تقع في ملتقى النيلين الأبيض والأزرق. يتفق كثير من المؤرخين على أن محمد عثمان باشا، والذي عينه محمد علي باشا كحاكم عام للسودان في عام 1822م، اختار الخرطوم كمركز لإدارته، ولم يكن فيها آنذاك غير عدد قليل من "العشش". بني ذلك الحاكم مباني من الطوب اللبن كمقرات لإداراته المختلفة، وبنى أيضا مساكن للموظفين فيها. قليلا قليلا بدأت الخرطوم في التوسع وغدت مركزا تجاريا هاما وسوقا عظيما للرقيق. قيل في ذلك الزمان إنه كان في تلك البقعة قرية عظيمة  في المنطقة المجاورة للخرطوم (لعل المقصود هو منطقة سوبا. المترجم)  وأن الشلك (الفونج) انقضوا عليها وقضوا على سكانها قضاء مبرما. كتب الفرنسي برن رولييه (والذي عاش في السودان في حوالي عام 1840م) أن كرتوم (Carthum) كانت مدينة كبيرة في زمان مضى، حتى غزاها الشلك ذات ليلة وقضوا على من فيها من أخضر ويابس في حوالي عام 1770 م. أضاف الكاتب أن جنود محمد علي باشا لم يجدوا في البلدة عندما دخلوها غير ثلاث عشش ومقبرة. قدر رولييه عدد سكان البلدة في حوالي عام 1840م بنحو أربعين إلى خمسين ألف نسمة.
كان الرجل الشركسي "عثمان بيه شركس" حاكم السودان في 1825م هو أول حاكم عام تركي يدفن في السودان. يقال إنه مات بمرض الجدري، ودفن في الخرطوم، بيد أن قبره ما يزل إلى الآن مجهولا. خلفه ماحو بيه في عام 1826م،  والرجل كان مسئولا عن ما تعرف ب"شجرة غردون". شاهد كثير من زوار الخرطوم، أو سمعوا عن شجرة حراز كبير على النيل الأبيض على بعد ثلاثة أميال من (وسط) الخرطوم. كانت تلك الشجرة تعرف بشجرة غردون (أو شجرة محو بيه عند كثير من الأهالي، نسبة لأنها تظلل قبر محو بيه). نسجت الكثير من الأساطير حول تلك الشجرة، والتي ظلت واقفة حتى عام 1840م حين جاء الطبيب الألماني فيردناند فيرني مستكشفا للنيل الأبيض. نمت شجرتا حراز فوق القبر وحجبته عن الأنظار، حتى جاء فيضان في عام 1878م وابتلع القبر والشجر معا.
واصل خالد باشا (1826م) والمشهور بالاستقامة والأمانة ما بدأه سابقوه من الحكام الأتراك، فشيد مبنى المديرية، وعلم الأهالي البناء بالطوب عوضا عن الجلود والقصب.
نقلا عن "الأحداث" 


No comments:

Post a Comment