Sunday, May 13, 2012

أشقاء وادي النيل: شماليو السودان في مصر


بقلم: انيتا فابوس
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

(1)

مقدمة: هذا المقال القصير هو تلخيص لمحاضرة قدمتها انيتا فابوس عام 2008 في جمعية الدراسات السودانية ببريطانيا في اجتماع جمعيتها العمومية، ولكتاب حديث صدر لها بعنوان : ("أشقاء" أم غرباء؟ السودانيين المسلمين العرب، 2008). أخذت الكاتبة كل الأمثلة الأثنية في هذا المقال من بحث أجرته في القاهرة بين عامي 1994 – 1997م وقامت بتغيير أسماء الأشخاص الذين أوردت قصصهم هنا، باستثناء أسماء الشخصيات السياسية والتاريخية المعروفة مثل التجاني الطيب.
الآراء المذكورة في المقال المترجم تخص – بالطبع- الكاتبة، وقد لا تتفق بالضرورة مع بعض آراء ورؤى المترجم أو حتى السودانيين المهاجرين واللاجئين الشماليين والجنوبيين علي حد سواء.

بدأت بحثي عن العرب السودانيين المسلمين في مصر بأمر محير حفز فضولي يتلخص في أمر العلاقة بين السياسة الاجتماعية و"اللاجئين" وكيف يرى الناس قضية "الانتماء". عينت في عام 1991م كباحثة رئيسة في مشروع صغير يبحث في أمر المصادر والفرص الدراسية والتدريبية المتاحة للاجئين في القاهرة. كان الغرض الرئيس من المشروع هو الإستعراف علي هذه الفرص والمصادر المتاحة لغير المصريين، إذ أن أغلب الفرص والمصادر المتاحة مخصصة فقط للمواطنين المصريين. كان معظم اللاجئين الذين وفدوا علي مصر في أوائل التسعينات هم من السودانيين، خاصة الجنوبيين الذين تم إبعادهم من المعسكرات التي كانت مقامة حول العاصمة الخرطوم، والشماليين الذين هربوا من قبضة الحكم العسكري الذي جاء للسلطة بانقلاب في 1989م. وخلافا لما كان يتعرض له اللاجئون من ارتريا وإثيوبيا والصومال، فلقد سمح المصريون للاجئين السودانيين بالمشاركة في البرامج التعليمية المصرية، بل تبين من إجابات المصريين المشاركين في البحث أنهم كانوا يشجعون اللاجئين السودانيين علي المشاركة في هذه البرامج.
لكني كنت قد لاحظت أيضا أنه رغم أن الجنوبيين السودانيين كانوا يتكدسون في مراكز المساعدات الكنسية أملا في التقدم لبرامج إعادة التوطين التي تنظمها السفارات الغربية، فلقد كان السودانيون الشماليون يصرون علي أنهم ليسوا بلاجئين، ولن يقدموا لمثل تلك البرامج. إضافة إلي ذلك، فلقد كان المصريون يعدون السودانيين الجنوبيين "لاجئين" في مصر، بينما يقولون أن الشماليين السودانيين "هم مثلنا نحن". كان كثير من زملائي المصريين يقولون لي أن الشماليين السودانيين هم أخوة مسلمون وعرب و"أشقاء" من وادي النيل.
إلي وقت قريب كانت سياسة الحكومة المصرية تفرق تفريقا واضحا لا لبس فيه بين "المواطنين" و"الأجانب" فيما يتعلق بأمور الدخول والإقامة والحصول على الخدمات الحكومية والامتيازات، بل وحتى الدخول للأماكن السياحية. بيد أن المواطنين السودانيين كانوا يستثنون من هذه القوانين. يدفع معظم المهاجرين في مصر (حتى الذين عاشوا فيها لأجيال وأجيال) مصاريف باهظة لإدخال أبنائهم في المدارس الأجنبية واستئجار الشقق السكنية الغالية، ويدفعون أموالا كثيرة من أجل الرعاية الطبية الخاصة. كانت هنالك أمام المهاجرين الكثير من العوائق القانونية وغيرها لامتلاك العقارات، ولم يكن هنالك أمامهم من سبيل للتجنس بالجنسية المصرية إلا عن طريق الزواج من رجل مصري، أو عند صدور قرار رئاسي (في حالات نادرة جدا) بتجنيس مهاجر أو أكثر. وبصورة عامة لم تكن السياسة المصرية تشجع الاستيطان والتكامل بين المهاجرين، بل لقد وضعت مصر تحفظات متشددة علي قوانين الدولة الصادرة في عام 1951م التي تحد من حرية العمل والتعليم والرعاية الصحية للاجئين.
رغم كل ذلك فلقد ظل السودانيون يتمتعون – ومنذ زمن طويل- بما يتمتع به المصريون في بلادهم، وكأنهم بذلك نالوا ما يشبه الجنسية المصرية. وتم تقنين ذلك في عام 1982م بصدور قوانين التكامل بين مصر والسودان. إن هنالك الآلاف من السودانيين الشماليين الذين هاجروا لمصر قبل استقلال السودان واستقروا في القاهرة، حيث تلقوا التعليم المجاني في المدارس المصرية، وحظوا بفرص العمل أيضا. علي النقيض من ذلك، فإن كثيرا من المهنيين السودانيين من شمال السودان كانوا ينظرون إلي فترة هجرتهم في السنوات القليلة الماضية في مصر وكأنها سنوات "منفى". لم تجد خبراتهم المهنية سوقا لها في مصر، كما كانت أماكن سكناهم المفضلة بين أحياء الطبقة الوسطى غالية الثمن بالنسبة لهم، لذا فلقد بقت السياسة المصرية الخاصة بمعاملة السودانيين بالمثل سياسة نظرية، إذ أن السودانيين الشماليين وجدوا أنفسهم مجبرين على دفع أثمانا غالية نظير الخدمات الأساسية التي تقدم لهم. وما أن حلت أعوام منتصف التسعينات حتى بدأ الكيل يطفح بالسودانيين الشماليين وبدأوا يحسون بأنهم صاروا فئة "مهمشة". وزاد الطين بلة أن الحكومة المصرية ووكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (التي عهد بها تحدد وضع هؤلاء المهاجرين) لم تصنف إلا عددا لم يتجاوز عدد أصابع اليدين ك"لاجئين" حقيقيين. لم تشأ الحكومة المصرية رسميا أن تعد "الأشقاء" في جنوب وادي النيل كلاجئين، إذ أنهم "كأخوة عرب ومسلمين ومحاربين ضد الاستعمار" لم يأتوا لمصر طلبا للحماية، بل هم "بين أهلهم وذويهم".
لقد وضعت تلك السياسة "المحتارة/ المحتاسة؟" أمامي سؤالين عويصين. أولهما: كيف يتعامل صانعوا السياسة في الدولة المضيفة عندما يكون طالبوا اللجوء أناسا ينتمون لمجموعة قومية تشاركهم في الدين والثقافة والهوية التاريخية. وثاني الأسئلة هو: كيف لنا أن نفهم الهوية القومية/الوطنية في ظل غياب كامل لحدود قومية واضحة وجلية؟ وهذا هو موضوع بحثي الذي أجريته في القاهرة.
هويات "فوق- قومية/وطنية" في عالم يقوم على نموذج دولة الأمة:
كنت قد كتبت كتابي المعنون "أشقاء أم غرباء؟" كرواية من الروايات البوليسية التي قمت فيها بسوق القارئ عبر طرقي الخاصة المتشعبة التي تستكشف أحوال السودانيين الشماليين في مصر، وعن التحدي الذي يواجه الهوية السودانية حيال مسألة التفسيرات المعاصرة لكيفية خلق الناس للانتماء وكون المرء "من الآخرين". ومقالي هذا هو ملخص ملاحظات مفتاحية عن "سياسة اللاجئين" كشأن داخلي.
يجب في البدء أن نعي أن هنالك بالإضافة إلي"الهويات القومية/الوطنية" التي يعتقد كثير منا في ضرورتها، فإن هنالك أيضا "هويات شاملة" (وهي ترجمة غير حرفية لهويات مظلية umbrella) تشمل أعضاء القوميات أو حتى مجموعات من القوميات. استعمل هنا لفظة "هويات فوق القومية/الوطنية" حتى أبين التعقيد التاريخي المعاصر لهوية السوداني العربي المسلم في مصر. إذ أن السودانيين ليسوا فقط "أقلية" في مصر لهم علاقات هوية مع غيرهم من المهاجرين السودانيين، بل هم أشقاء مسلمين وعرب ومستعمرين سابقين من قبل البريطانيين في وادي النيل.
تشارك شماليوا السودان مع المصريين في عدة صفات متعلقة بالهوية "فوق القومية/ الوطنية". أول تلك الصفات هو الامتداد الجغرافي لوداي نهر النيل، ثم الأصول المشتركة (المدعاة) للحضارة الفرعونية علي جانبي الحدود المعاصرة. يشير تعبير (أشقاء وادي النيل) المحبب لدى المصريين إلى الأصول المشتركة من الدم والقرابة والمجتمع عند سكان وادي النيل. أما ثاني تلك الصفات، فعلى الرغم من أن الوجود التاريخي لهويات متنافسة (مثل الوطنية المصرية التي تمجد مصر قبل دخول العرب إليها) إلا أن المصريين والسودانيين يشتركون في تراث وثقافة وأصل عربي واحد. كان لدور جمال عبد الناصر في إنشاء جامعة الدول العربية (هذا ليس صحيحا بالطبع. المترجم) ولتأييد المصريين والسودانيين للقومية العربية دورا كبيرا في تغذية هوية عربية "فوق- قومية" مشتركة بين الشعبين.
ارتبط الشعبان السوداني الشمالي والمصري أيضا بهوية دينية مشتركة، منذ قيام دولة قبطية علي شاطئ النيل في الفترة البيزنطية، وانتشار الإسلام عن طريق التجارة والبعثات الدراسية وتكوين الروابط الدينية المشتركة. والإسلام – كدين عالمي- يدعوا للترابط بين المسلمين خلال إطار "فوق-وطني/ قومي"، إذ أن "دار الإسلام" لا تحدها حدود رغم ممارسات وتاريخ المسلمين عبر العصور في هذه البسيطة. وهنالك رابط معاصر يربط الشعب المصري بالسوداني وهو كفاح الوطنيين في البلدين ضد من استعمرهما معا: بريطانيا العظمي. لقد مثل "حزب الوفد" المصري (الداعي لوحدة وادي النيل) المقاومة المصرية للحكم الاستعماري مثلما مثلها في السودان "الحزب الاتحادي الديمقراطي"، وهما يناديان معا بالقومية العربية ويساندان حركات التحرر في أنحاء العالم المختلفة. تنافست هذه القوميات الوليدة على تأييد شعبي وادي النيل، مع بقاء الدولتين مستقلتين ومشاركتين كعضوين في جامعة الدول العربية، وتخطت بذلك حلم دولة موحدة لمصر والسودان. إضافة إلي لذلك فإن في السودان شعبا آخر له هوية ودين غير الهوية العربية الإسلامية. كان هذا سببا لبذر بذور الشقاق السياسي في البلاد الذي يعد إرثا خلفه الاستعمار. رغم ذلك فإن المصريين كانوا يرون أن بين السودان ومصر من الوشائج والعلائق "فوق-القومية/الوطنية" ما يكفي لطمس متطلبات المواطنة في البلدين واستقلالية كل بلد بمفرده. لقد عضدت مئات السنوات من الهجرة والتصاهر والتجاور والتقارب والتعليم والأخوة الدينية من الهوية المشتركة. ولعل أفضل مثال علي تأكيد مصر على دعوي "هوية وادي النيل" هو أن أصول حاكم مصر الأول (محمد نجيب) والثالث (أنور السادات) كانت خليطا من شمال السودان ومصر. وفي عام 1981 وقع الرئيس السوداني جعفر نميري والرئيس المصري أنور السادات اتفاقية التكامل بين البلدين، وهي الاتفاقية التي تناولت جوانب تتعلق بالتعليم والاقتصاد والتنقل بين القطرين، مع احتفاظ كل قطر باستقلاليته. تم كذلك إنشاء برلمان مشترك سمي "برلمان وادي النيل" لتعميق مفاهيم التكامل، وأعطي المصري في السودان، والسوداني في مصر حقوقا تشبه حقوق المواطن في بلده.
كان للسوداني الشمالي عدة أسباب ليستقر في مصر. أتي كثير من العمال السودانيين للعيش في مصر والارتباط بالمؤسسات المصرية. قابلت في مدينة أسوان المصرية "ميساء"، وهي امرأة تفيض بالحياة في السبعينات من عمرها. ولدت "ميساء" في مصر لوالدين كانا قد هاجرا لأسوان من "مروي" في شمال السودان في عشرينات القرن الماضي خلال فترة الاستعمار البريطاني المصري. كان الجيش البريطاني يجند السودانيين للعمل في صفوفه في كل المهن والرتب والتخصصات. فمثلا كان سلاح الهجانة الذي يحرس الحدود السودانية المصرية يتكون كله من السودانيين. تزوجت "مياسة" من ابن عمها السوداني الذي تخرج من الكلية الحربية وعمل ضابطا في الجيش المصري البريطاني. أثمر زواجهما عن أربعة أولاد عاشوا في أسوان ونال اثنان منهم الجنسية المصرية رغم أن "ميساء" وزوجها بقيا في مصر بعد استقلال السودان في 1956م واحتفظا بجنسيتهما السودانية. وظلت "ميساء" تنال معاش زوجها كضابط في الجيش المصري حتى بعد وافته في السبعينات.
لعبت مصر بعد استقلال السودان دورا هاما في احتضان السياسيين السودانيين المعارضين والمنفيين. من أهم هذه الشخصيات التجاني الطيب، أحد قادة الحزب الشيوعي والذي هرب إلي مصر في التسعينات. كان لأستاذ التجاني صلات شخصية وسياسية وثيقة بمصر عندما كان طالبا في الجامعة المصرية في الأربعينات، وكان عضوا في الحركة الشيوعية المصرية. في عام 1948م سجنت السلطات المصرية التجاني الطيب لمدة عام كامل بحجة أنه كان يمثل "خطورة" علي الأمن المصري، وتم ترحيله للسودان حيث أسس مع غيره الحزب الشيوعي السوداني. ظل التجاني نشطا في ذلك الحزب لعقود طويلة، ومع توالي الأحداث لجأ التجاني إلي القاهرة. وفي الواقع أن مصر وفرت في سنوات التسعينات مناخا مناسبا للمعارضة السياسية حيث كانت مقرا دائما لكثير من قادة الأحزاب السودانية.

(2)
التغيير الاجتماعي والالتزام بمعايير سلوكية وأخلاق عالية Social Change and Propriety لا يعني ما ذكرناه آنفاً أن المصريين والسودانيين لم يكونا يدركان مدى الفروقات بينهما، ولكني أزعم أن الشعبين ظلا يقاومان التفسير الذي يقول إن تلك الفروقات تأخذ شكل "الهوية العرقية". وظهر مثل هذا الفهم عندما بدأت في إشراك بعض الزملاء البحاثة السودانيين والمصريين في اهتماماتي البحثية. سجلت بعض الملاحظات التي وردت من بعض المصريين على موضوعي البحثي حول هوية السودانيين في مصر. فلقد قال بعضهم: "أنظر للأرمنيين في مصر. هم جماعة عرقية لأنهم يتحدثون لغة مختلفة ويدينون بديانة مختلفة وهكذا. سيكون من الخطأ الحديث عن السودانيين في مصر كجماعة عرقية مستقلة إذ أنهم لا يختلفون عن المصريين!"
بينما قال أحد السودانيين: "إن المشاكل موجودة فقط بين الحكومتين، وليس ثمة خلافات بين الأشقاء في وادي النيل. ستزول حتماً هذه السحابة العابرة".
رغم كل ذلك بدأ التوتر الناشئ بين الحكومتين المصرية والسودانية يظهر أثره السيئ على السودانيين في مصر، حيث أضيفت علي كاهلهم أعباء إضافية في أمور عديدة مثل إدخال أبنائهم للمدارس وتجديد الإقامات والالتحاق بدورات تدريبية والعثور على وظائف. وما أن شارف عقد التسعينات من العقد الماضي، حتى كان السودانيون في القاهرة قد آمنوا تماماً أن ثمة خطأ ما في الشعار الذي ينادي بوحدة الأشقاء في وادي النيل. وعمت موجة من الغضب العارم والغبن الشديد المواطن السوداني في مصر نتيجة لضغوط معاناته اليومية، والمعانات التي كان يتجرعها، ولفقدانه لحقوق قانونية مساوية لـ"شقيقه" المصري، وكذلك لتجاهل الحكومة المصرية لمطالبه واحتياجاته وغمطها لحقوقه .
أجمع دارسو علم الأجناس البشرية (الأنثربولوجيا) من زمن بعيد على أن المجموعات البشرية التي تتعرض لموجة تغيير وتجابه أزمة ما (وتحس بخطر محدق على رفاهيتها، أو حتى على وجودها) عادة ما يجدون ضالتهم في هوية جديدة، وقد يتضاعف شعورهم بالانتماء لهذه الهوية الجديدة لدرجة الإفراط. وهذا بالفعل ما حدث أثناء صراعات معلومة ومشهودة كان مصدرها "العرق" أو "القومية"، حيث تجد المجموعات البشرية التي كانت تصف نفسها بأنها كانت تعيش (أو تتعايش) مع جيرانها في أمن وأمان وأخوة نفسها فجأة في حالة صراع وحرب مع هؤلاء الجيران، فتتخذ من الأسباب والذرائع ما يبرر هذا الصراع والحرب. ويحضرنا هنا مثال حرب الهند والباكستان، ومثال دولة يوغسلافيا التي انقسمت لدويلات عرقية/ قومية مختلفة. وفي هذا الصدد نجد أن عالم "الأجناس البشرية" تون برنقا قام عقب حرب البلقان بتصوير شريط وثائقي عن العملية التي تفرق فيها "الكروات" و"المسلمون" في قرى كانوا يسكنونها معاً، حيث ذهب كل فريق منهم لقرى فيها جماعته، وانقلبوا من بعد ذلك إلى أعداء الداء بصورة عنيفة لم يتصورها أحد عند بداية الصراع. نجد في هذا الشريط الوثائقي بعض الأصدقاء من "الكروات" و"المسلمين" الذين كانوا يتناولون قهوة الصبح سوياً على مدى أربعة عقود طوال، يحاربون ويقتلون بعضهم بعضا. كل ذلك دليل أكيد على مدى قوة تأثير "الكرامة" و"العزة" و"الخوف" الذي يصاحب مشاعر الانتماء لهوية أو قومية ما.
كذلك وجد السودانيون في مصر مشاعر إيجابية نحو المجتمع المصري مختلطة بمشاعر نتجت عن شعورهم بالإقصاء والعزل. قضى بعض السودانيين (مثل السيدة/ "ليلى") أغلب سنوات حياتها بعد بلوغ سن الرشد في مصر، وتعد العديد من المصريين كخير أصحابها المقربين. أتت "ليلى" إلى مصر للدراسة الجامعية في جامعة القاهرة في الثمانينات، وعادت لبلادها بعد حصولها على درجتها الجامعية. بيد أنها آبت لمصر مجددا، ومع كامل أفراد أسرتها هذه المرة، بعد أن هاجر والدها الموظف الحكومي الكبير من السودان فراراً بآرائه السياسية المعارضة للحكومة، واستقر بهم المقام جميعاً في مصر. حصلت "ليلى" على وظيفة ممتازة مع منظمة "غير حكومية"، وكانت تسكن مع عائلتها في شقة مريحة، وتتمتع بصداقات متنوعة مع مصريين وسودانيين كثر. ييد أنها بدأت تحس بما يعانيه السودانيون – بصورة عامة - في مصر بعد عام 1995م، وأحست بأنه ما عاد ممكناً لها أن "تتوافق" مع المصريين. كانت تشتكي من أن الجيران صاروا أكثر وقاحة مع عائلتها، وبدأت تقتنع بأن المصريين "تغيروا"! وبعد وفاة والدتها هاجرت "ليلى" مع بعض أفراد أسرتها للعيش في كندا.
هنالك أيضاً قصة "حمدي"... التي توضح بجلاء أكثر قصة تحول "الوطن" إلى "قومية أجنبية". مثله مثل "ليلى" درس "حمدي" في جامعة القاهرة، وتزوَّج من فتاة مصرية نوبية. عاد "حمدي" مع زوجته النوبية للوطن، حيث حصل على وظيفة ممتازة في إحدى الوزارات. تم فصله من وظيفته في عام 1994م لأسباب سياسية، فلم يملك إلا أن عاد هو وزوجه إلى مصر مرة أخرى حيث حفيت قدماه وهو يبحث عن عمل يعيش من دخله، إذ أن المخدمين المصريين لم يكونوا على استعداد لتعيين سودانيين، إذ أن النظرة لهم الآن قد تغيرت، وصاروا "أجانب"، ولا يحق لهم منافسة المواطنين المصريين في فرص العمل المحدودة. فشل "حمدي" في حمل أصدقائه القدامى من المصريين على تسهيل أمر حصوله على الأوراق اللازمة لاستخراج "تصريح عمل" له. كذلك لم يجد "حمدي" في نفسه رغبة في العمل في "وظائف هامشية" لا تتناسب مع وضعه السابق كموظف حكومي كبير! واضطرت زوجته لإعالته والنفقة على نفسها وطفلها بالعمل كحنانة، وكانت تذهب من بيت لبيت تجر طفلها الصغير أينما ذهبت، بينما كان زوجها يقضي سحابة نهاره في المقاهي يتحدث في أمور السياسة ويقرأ الصحف اليومية، ويمضي ليله في بيوت الأثرياء من السودانيين حيث يغرق أحزانه المتراكمة، ويعود مع تباشير الفجر لزوجته الغاضبة الحانقة. فشل "حمدي" في الحصول على صفة "لاجئ" فلم يجد أمامه سوى اتخاذ الخطوة الجريئة والخطرة بالعودة للوطن.
لعل تجارب "ليلى" وحمدي في مصر وضيقهما بـ"الأخوة" المصرية ليست وقفاً عليهما، بل هي صفة ملازمة لكثير ممن قمت بالحصول على إفادتهم في بحثي، وتحمل كثير من المنظمات الثقافية والعرقية وغيرها ذات المشاعر، إذ أن هذه المنظمات ما أنشئت إلا استجابة لشعور السودانيين بالغبن والعزلة. رغم كل ما قيل فإن السودانيين – رغم مشاعر الإحباط والغضب مما يحدث لهم – وتعجبهم من مواصلة المصريين الحديث عن شعارات "الأشقاء" و"وحدة أبناء وادي النيل" رغم ما يفعلونه بهم، فإنهم لم يقوموا باتخاذ أي موقف عدائي واضح ضد مصر أو المصريين. لاحظت أن كثيراً من السودانيين الذين كانوا يساعدونني في بحثي كانوا لا يزيدون عن انتقاد سوء تعامل المصريين معهم، ووقاحة صبيتهم واستخفاف رجالهم بهم والمعاملة "الخشنة" التي كانوا يجدونها من نساءهم. بالطبع تندرج كل تلك التعليقات على مشاعر ذاتية تجاه "إخوتهم السابقين" ويصعب التحقق منها موضوعيا. تشمل تلك المشاعر الذاتية أشياء مثل عدم رد السلام بطريقة لائقة مع الجيران، وأن المصريين يتبادلون الشتائم على الملأ وهكذا. وررد بعض من سألتهم من السودانيين جملا مثل: "والله المصريين ديل ما مؤدبين"! وبدا لي هذا القول وكأنهم يبنون جداراً عازلاً حول هويتهم..
إن اختيار بعض السودانيين لبناء هذا النوع من الجدار العازل لهويتهم تمييزاً لهم عن المصريين (على اعتبار أنهم أوفر أدبا) أمر يدعو المرء للتأمل. لقد استدعت الجماعات العرقية المهاجرة المختلفة ما تعتقد أنه يميزها عن غيرها في جانب "التفوق الأخلاقي". معلوم أن المصريين والسودانيين (العرب المسلمين) يتشاركون في ذات القيم الأخلاقية، ويؤمنان بأن السلوك القويم للنساء والرجال يستمدان مصدرهما من قيم أصلية تستند إلى تعاليم الدين الإسلامي والعروبة التي تحض على فضائل التواضع والكرم والضيافة و الكرامة والمساواة الاجتماعية. تلك هي ذات القيم التي يؤمن بها العرب والمسلمون في مصر والبلدان الأخرى. إذن لم استعمل (بعض) السودانيين في مصر "الأدب" كعلامة فارقة تميزهم عن المصريين؟ إن نتائج بحثي تشير إلى أن التزام السودانيين بمعايير سلوكية وأخلاق عالية propriety كعلامة هوية مميزة تتيح لهم امكانية تحوير و"إعادة تفسير" قواعد السلوك بطريقة مرنة تبعد أو تقرب المصريين منهم حسب ما تمليه الظروف.
هوية ملتبسة:Ambiguous ethnicity
يمكننا أن نستخلص مما سبق أن السودانيين الشماليين في مصر في عقد التسعينات سلكوا -باختيارهم- مدخلا مرنا وملتبسا لتثبيت هوية جماعتهم. ولهذه الغاية يستدعون كل خصائص السلوك العربي الإسلامي، والتي يتشاركون فيها مع المصريين. وبهذا فإنهم يجدون طرقاً دقيقة وغير ملحوظة لتمييز أنفسهم عن المصريين، مع المحافظة في ذات الوقت على مظهر خارجي يؤكد  التضامن والتوحد معهم. لقد تعرضت في كتابي للطرق والوسائل التي سلكها رجال ونساء السودانيين المهاجرين في مصر لتثبيت دعائم "تفردهم" بطرق محددة، معتمدين على خاصية "الأدب"، مع الأخذ في الاعتبار سطوة الدولة المصرية.
يبقي السؤال قائما: هل يعد السودانيون في مصر مهاجرين أم لا؟ الإجابة كما هو متوقع هي نعم ولا. إن كثيراً من السودانيين الذين يسافرون ويعودون من مصر بصورة متكررة بغرض العلاج أو التعليم أو السياحة أو العمل لا يعدون أنفسهم "مهاجرين"، بيد أن كثير من الساسة السودانيين المعارضين سعوا للحصول على وضع مختلف. في نهاية أعوام التسعينات نجحت منظمة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة مصر والمجتمع الدولي بالموافقة على منح السودانيين الشماليين الحماية وصفة "لاجئين سياسيين" للذين تنطبق عليه الشروط المعلومة. رفضت مصر العودة الكاملة للوضع القديم الذي يعد السوداني "شبه مواطن". عرض على كثير من هؤلاء المهاجرين إعادة التوطين في دولة ثالثة مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا.
عاد أمر "التكامل" بين الشعبين في عام 2005م إلى الواجهة عقب فض الشرطة المصرية المسلحة لاعتصام سلمي استمر لثلاثة أشهر قام به بعض المهاجرين السودانيين في ميدان عام أمام مكاتب منظمة اللاجئين في وسط القاهرة، وحامت شكوك قوية حول إمكانية تنفيذ اتفاق "الحريات الأربعة" والتي وقعها الرئيسان حسني مبارك وعمر البشير، خاصة عند أولئك الذين لا يشعرون بأن المصريين يرغبون في إقامة علاقة "أخوية" معهم. كان هؤلاء يشعرون بأن اتفاق الحريات الأربعة (التنقل والعمل والإقامة والتملك) للمصريين في السودان وللسودانيين في مصر لا تخصهم في كثير أو قليل، وأنهم سيظلون "معزولين" في مصر، ويخسرون كذلك فرصة إعادة التوطين في بلد ثالث.
ما أن خرج "جني" اللجوء من قمقمه، حتي تزايد زهد قطاع كبير من السودانيين في مصر في التكامل الرسمي بين القطرين "الشقيقين".

رسالة عبد الفتاح المغربي إلي محرر جريدة سودان استار (1949م)


(1)
مقدمة: كان عبد الفتاح المغربي محاضراً أولاً للرياضيات في كلية غوردون (التي تطورت فيما بعد لكلية جامعية) عندما كتب هذه الرسالة المطولة في الأول من أكتوبر 1949م. عين عبد الفتاح في عام 1951م كعضو المعارضة الوحيد في الجمعية التشريعية التي كانت تبحث في أمر دستور البلاد، وعمل في هذا المنصب لمدة ثمانية عشر شهرا. في نهاية عام 1955م تم تعيينه عضواً في الهيئة الاستشارية العليا،ثم عضواً في مجلس السيادة عقب إعلان السودان في الأول من يناير 1956.
نشرت هذه الرسالة في مجلة "الدراسات السودانية" التي صدرت في بريطانيا في مارس 1999م
........................
يا سيدي:
 ظهر في الآونة الخيرة عدد من المقالات عن السودان بقلم الكاتبة الآنسة مارجيري برهام من أكسفورد. أرجو منكم التكرم بنشر الملاحظات التالية تعليقا علي احد مقالاتها التي نشرتها في المجلة الأميركية "الشئون الخارجية" العدد 27، 665 – 667، 27 يوليو 1947م) و عنونتها: "السودان: ميلاد أمة".
لقد زارت الآنسة برهام السودان في مرات عديدة بصفة شبه رسمية أحياناً، وكسائحة أحياناً أخرى، والتقت خلال زياراتها المتعددة مع عدد من مسئولي الحكومة ورجال الأحزاب السودانية. أخذت تلك الاتصالات شكل زيارات رتبتها سلفاً الجهات الرسمية وبعض كبار المسئولين السودانيين الذين طلب منها مقابلتهم، وكانوا رجالاً من النوع الذي يشغل الوظيفة المناسبة في الوقت المناسب، ومستعدين دوماً لكيل الثناء وتدبيج المدح لأي نظام قائم- وهذا النوع من المسئولين موجود في كل البلاد الواقعة تحت سيطرة الحكم الأجنبي، ولا ريب أن الآنسة برهام – شأنها شأن كل الخبراء- تعرف هؤلاء جيداً.
لقد أصابت الصدمة كثير من متعلمي السودان  فيما قرأوه للآنسة برهام في الصحافة البريطانية والأميركية عن ما رأته في السودان، وكانوا يعدونها من الأكاديميات الثقاة الباحثات بصدق عن الحقيقة. بيد أن مقالاتها لم تترك عند هؤلاء المتعلمين سوى الشعور بأنها قد وقعت تحت تأثير آلة الدعاية الماهرة الماكرة الخادمة للسياسة البريطانية في السودان، ولم تك تكتب بدافع النزاهة والتجرد والموضوعية المأمولة من مؤرخ معاصر.
إن الروح السائدة في مقالها المعنون: "السودان: ميلاد أمة " لا تتضمن نقدا هادفا أو نصيحة مخلصة لتغيير الطرق الاستعمارية "الجلاديستونية" القديمة، ولا تحوي أي خطط معقولة يمكن للإدارة البريطانية المعاصرة إتباعها لمواجهة التغييرات المتتالية في شئون عالم اليوم الاستعماري. بل علي العكس تماماً، مضت الكاتبة القديرة في كيل الثناء على الوضع الحالي، وتدبيج المديح لمن تجري في عروقهم الدماء الزرقاء الذين يحكمون قوماً سودا. لم تبذل الكاتبة أي جهد لسبر غور مشاعر السودانيين الحقيقية، ولم تضع في حسبانها أن السودان سيكون له يوماً ما صوت مسموع في المحافل العالمية... حينها سينفضح للعالم كله أمر أولئك "الزرق" ووسائلهم المبذولة لتعطيل حصول السودانيين علي حقهم في تقرير المصير.    
جاءت المقدمة التاريخية والجغرافية التي دبجتها الكاتبة مبرأة – علي وجه العموم- من الأخطاء، بيد أنها حاولت رسم صورة معينة لمصر والسودان في منتصف القرن التاسع عشر، وقاستها وحاكمتها بمعايير اليوم، إذ أنها شنت هجوماً كاسحا علي العبودية وتجارة الرقيق، واختصرت كل تاريخ محمد علي باشا بالقول أنه "أحرز انتصاراً رخيصاً علي إمارات السودان المتفرقة". لكنها تناست أن "القومية" في الماضي لم تكن شديدة البروز في الشرق، فلقد كانت هي والإسلام مفهومين متطابقين. لم تكن هنالك – كما هو الحال اليوم- جوازات سفر تعيق انتقال الناس عبر الحدود، ومر علي مصر زمن كان يحكمها فيه زنجي دون احتجاج من أحد.
وفّرت تجارة الرقيق عذراً مناسباً لقوى الإمبريالية للتوسع في بلدان الشرق، ولم يكن هؤلاء الإمبرياليون يستفظعون تجارة الرقيق فعلاً كما حاولت الكاتبة أن تقنع قراءها. كان سباق القوى الإمبريالية المحموم لتقاسم أفريقيا في القرن الماضي أفضل بقليل (فقط) من تجارة الرقيق. سيطر ممثلو الشعوب الأوروبية وهم يحملون أعلاماً مختلفة، ويرتدون بزات متباينة، ويقدمون للشعوب المقهورة أوراق معاهدات جاهزة للتوقيع، علي أراض شاسعة، وعلي آلاف الرجال السود الأشداء الذين أجبروا قسراً علي الدخول في سلك الجندية ومحاربة أهلهم السود والسيطرة على مزيد من الأراضي. وستظل حادثة فشودة خير دليل علي ما أقول. كان أمر الاستيلاء علي الأراضي بهذه الطريقة أمراً يسيراً لدرجة أن كثيراً من الدول وساكنيها قد وهبت لأفراد بعينهم مثل ليدرتز وليوبولد وسيسيل رودز.
في القرن الثامن عشر قامت قوة أوربية واحدة منفردة بتصدير ما يفوق الخمسة مليون عبد للخدمة الإلزامية في خارج أوطانهم. بل كانت بريطانيا العظمى نفسها هي المتاجر الأول بالرقيق في العالم. ولم تتوقف عملياً حتى عام 1850م عمليات إغارة الأوربيين علي القبائل المسكينة التي لا حول لها ولا قوة. ويجب القول بأنه من الحقائق التاريخية أن مصر وغيرها من الدول العربية كانت تسمح بتجارة الرقيق، بيد أن الدول الأوروبية كانت تتولي أيضاً عمليات شحن الرقيق البغيضة من شواطئ أفريقيا.
لم يكن منشأ اهتمام بريطانيا بالسودان هو العطف أو الإحسان أو الإيثار، بل كان ببساطة شديدة هو النتاج الطبيعي للمنافسة بين الدول الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر علي إنشاء إمبراطوريات ضخمة. ليس هنالك ما يدعو للفخر أو الخجل من هذا التاريخ. لقد عمل الجميع وفق قانون الصراع علي الوجود، وقانون البقاء للأصلح، وانطبقت هذه القوانين علي جميع الدول في الماضي كما هو الحال إلي يوم الناس هذا. كان لحملة نابليون سيئة الذكر علي مصر في عام 1798م، واكتشاف المسئولين البريطانيين لمنابع النيل بتكليف من الحكومة المصرية وغيرها أثر ضخم علي تغذية اهتمام بريطانيا بالسودان، إذ أن بريطانيا طمعت في نيل حصة الأسد من حوض النيل، وبذلت الحكومات البريطانية المتتابعة جهدها في سبيل ضم بلدان هذا الحوض العظيم لممتلكاتها.
 كانت مصر في عام 1830م  إمبراطورية واسعة تمتد من أعالي النيل حتى حلب وأدنة (في تركيا)، وكان لها جيش عظيم وقوات بحرية ممتازة، وكان في مقدورها اكتساح القسطنطينية لولا التدخل المشترك لبريطانيا وروسيا وفرنسا. بيد أن الذين خلفوا محمد علي باشا في حكم مصر لم يكونوا علي قدر وافر من الفطنة أو الشجاعة، وبذا فلقد سمحوا للبريطانيين والفرنسيين بالتسلل والتدخل والتأثير علي مجريات أمور وشئون مصر الداخلية، واتخذ ذلك التدخل والتأثير شكل "سيطرة ثنائية" علي الخزينة المصرية ومواردها.
وكما أشارت الآنسة برهام كانت معاهدة عام 1898م التي أعقبت موقعة أمدرمان في الواقع معاهدة بين كرومر وكتشنر أكثر منها معاهدة بين بريطانيا ومصر، رغم أن لورد كرومر كان هو من وقّع إنابة عن الحكومة المصرية. ومنذ ذلك التاريخ ظلّت بريطانيا هي الحاكم الفعلي للسودان، واقتصر دور مصر في حكم السودان على علمها الذي يرفرف من علي سارية القصر، وعلي بضعة موظفين صغار كانت الحاجة لخدماتهم ماسة لإدارة شئون البلاد.

(2)
مقدمة: كان عبد الفتاح المغربي محاضراً أولاً للرياضيات في كلية غوردون (التي تطورت فيما بعد لكلية جامعية) عندما كتب هذه الرسالة المطولة في الأول من أكتوبر 1949م. عين عبد الفتاح في عام 1951م كعضو المعارضة الوحيد في الجمعية التشريعية التي كانت تبحث في أمر دستور البلاد، وعمل في هذا المنصب لمدة ثمانية عشر شهرا. في نهاية عام 1955م تم تعيينه عضواً في المجلس الاستشاري، ثم عضواً في مجلس السيادة عقب إعلان السودان في الأول من يناير1956م.    
نشرت هذه الرسالة في مجلة "الدراسات السودانية" التي صدرت في بريطانيا في مارس 1999م. في الجزء الأول من الرسالة كتب عبد الفتاح عن العلاقة بين السودان ومصر، وعن الاستعمار البريطاني للسودان والعلاقة التاريخية للسودان مع مصر. وفي هذا الجزء يعرض الكاتب لآراء جريئة عن موظفي الخدمة المدنية من السودانيين، وعن مصر وبريطانيا. قد يكون من المفيد أن يعلم القارئ أن الكاتب متزوج من بريطانية عاش معها سنين عددا في الجريف، حيث كتبت زوجته مذكرات بعنوان "أيامي في الجريف" تم نشرها في مجلة "الدراسات السودانية" قبل سنوات، وقمت بترجمتها ونشرها في "الأحداث" ومواقع اليكترونية أخري.
.......................

اتخذ البريطانيون من الحادث المؤسف الذي قتل فيه السير لي استاك في عام 1924م في أحد شوارع القاهرة ذريعة للطرد الفوري والشامل لكل ضباط وجنود الجيش المصري من السودان، وبرحيلهم فقدت مصر كل ما تبقى لها من نفوذ في البلاد. توقف مؤقتا كذلك مد حركة "وحدة وادي النيل، وتم إغلاق المدرسة الحربية في الخرطوم إلي أجل غير مسمى، وأدى الضباط السودانيون بالجيش المصري قسم الولاء لحاكم عام السودان البريطاني الجنسية. ورغم كل هذا، فلم يبلغ عداء البريطانيين لمصر إلى حد إنزال علمها من على سارية القصر الجمهوري، إذ أن ذلك كان سيكون متناقضا مع ما كانت تدعيه بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية من أنها داعية "العدالة" في العالم وزعيمتها الأولى. لذا سمحت بريطانيا لمصر بأن يظل علمها يرفرف جنباً إلي جنب مع العلم البريطاني في كل المباني الحكومية في سائر أرجاء البلاد. بيد أن كل ما فرضته حكومة السودان على مصر بعد التمرد العسكري في عام 1924م من الطرد والمنع والحجر والتقييد، أتي بغير ما تشتهي بريطانيا، إذ أن تلك الإجراءات لم تفعل سوى إذكاء نار المشاعر الوطنية عند السودانيين، وتقوية رغبتهم في الاتحاد مع مصر. لم يكن ذلك وقفاً علي طبقة المتعلمين من السودانيين، بل شمل أيضا الصناع والمزارعين والتجار في كل أنحاء البلاد.
تبلورت لدى السودانيين آراء سياسية محددة علي اختلاف مستويات تعليمهم. فلقد كان أكثرهم من الأميين، وقليل منهم متعلمين، بيد أن الجميع كان على قدر كبير من الوعي والحس السليم.
بلغت نسبة الأمية وسطهم أكثر من 99%، وكان لديهم طبيب واحد لكل 70000 فرد. كانوا يكرهون أن يروا (استعمل المؤلف في الأصل تعبير "يحقدون على". المترجم) المسئولين البريطانيين وهم ينعمون بمرتبات وامتيازات ضخمة، وسلطة مطلقة، ومنازل فخيمة علي شاطئ النيل. تزايدت وتعالت بعد ذلك دعوات السودانيين للحكم الذاتي أو الوحدة مع مصر. كان قيام مؤتمر الخريجين العام هو القوة الدافعة وراء كل ذلك. لا جدال أن ذلك المؤتمر يحق له أن يفخر بأنه هو من أيقظ الشعور الوطني في السودان، وأحدث ثورة تعليمية بإنشاء عدد من المدارس الأهلية.
أقامت حكومة الاستعمار- بعد خطوات مترددة وتحت ضغوط عديدة من السودانيين ومطالبات مستمرة لتقاسم السلطة- مجلساً استشارياً، وجمعية تشريعية ومجلساً تنفيذياً. دلت مناقشات السودانيين المتعلمين ووسائلهم السلمية وسلوكهم تجاه المستعمر علي أنهم كسبوا الكثير تحت الرعاية البريطانية. كان ما يطمحون إليه فعلاً هو الحصول علي حق الحكم الذاتي، بيد أن معرفتهم بتاريخ الإمبريالية البريطانية ألجأتهم إلي مصر ليكون السودان تحت التاج الملكي المصري بجيش واحد وسياسيات أجنبية متماثلة. كانت تلك فرصة ذهبية لبريطانيا لتثبت حسن نيتها وإخلاصها للسودانيين وذلك بالقيام بخطوات حقيقية لتدريبهم في إدارة شئون حكمهم الذاتي. بيد أن الحاكم العام البريطاني لم يشأ حسداً من عند نفسه أن يسلم سلطته الرفيعة ذات الهيبة والمكانة إلى المواطنين الذين كانوا – حتى الآن- أذلة تحت سلطته، فعمد إلي تقوية موقفه  أكثر فأكثر بخلقه لوظائف اسمية وفخرية منحها لبعض السودانيين من خاملي الذكر الصاغرين له من الذين أدمنوا – وعلي وجوههم ابتسامة عريضة-  الموافقة والتأمين علي كل ما يعن له، مع أنه يعلم تماماً أنهم عاطلون عن التأهيل والموهبة والكفاءة، ولم يؤتوا من العلم أو الوطنية شيئاً. تم تعيين بعض هؤلاء النكرات علي عجل مريب ورفعوا لمناصب إدارية عليا تهيئة لهم لتسنم وظائف أعلى في مستقبل قريب. لا يمكن وصف هؤلاء الذين اختارهم المستعمر سوى بالعقم (الفكري) والرجعية، فمعظمهم ليس له من التأهيل ما يجعلهم يتبوأون المناصب الرفيعة التي منحت لهم، ولا القدرة علي المبادرة ومسايرة تقدم الزمن والتطور الذي حدث لمواطنيهم. كان مبلغ همهم هو تسنم المناصب الرفيعة حتى يقوموا – صاغرين - بتنفيذ سياسية سادتهم  البريطانيين، وفي مقابل ذلك يقوموا باستغلال مناصبهم لمنفعتهم المادية الشخصية البحتة. علي الرغم من أن الآنسة برهام قد ذكرت أنها علي معرفة وصلة بمثل هذا الصنف من كبار الموظفين السودانيين، فإننا نكاد نجزم بأنه، وبالنظر إلي قصر المدة التي قضتها الآنسة في السودان، فإن معرفتها بمثل أولئك النفر (غير الكريم) بل بكل السودانيين لا بد أنها معرفة سطحية عابرة.
إن هنالك حداً للتكتم والسرية التي ينبغي للموظف الحكومي أن يلتزم بها. وقد تخدش كرامة هذا الموظف العام إن تم الكشف عن شخصيته عند ذكر بعض المعلومات والحقائق التي تبرع ذلك الموظف بتقديمها. لقد تصرفت الآنسة برهام بكثير من عدم اللياقة إذ كشفت فيما كتبت عن شخصيات الذين زودوها بالمعلومات، ولم تراعي أن المصالح العليا للبلاد مقدمة علي علاقات الصداقة الشخصية. ولن أزيد علي هذا بمزيد من التصريح، فهذا خارج عن سياق هذه الرسالة. بيد أن هنالك نقطة هامة لا ينبغي للآنسة برهام أو السلطات المحلية إغفالها، وهي أمر يؤكد على التجانس العنصري الذي يميز سكان وادي النيل. إن حوالي سبعين في المائة من الوزراء ووكلاء الوزارات (رغم ما بذل من جهد في سبيل اختيارهم من مختلف درجات السواد) تجري في عروقهم دماء مصرية. إن رئيس الجمعية، والوزير دون أعباء، قد أتيا من بلد ظل طوال التاريخ (حتى في زمن المهدية) يتبع لمصر. بل إن أقاربهم مازالوا يصوتون في انتخابات البرلمان المصري. وهنالك وكلاء وزارات الاقتصاد والتجارة والمواصلات والعدل والأشغال العامة والري كلهم أبناء أو أحفاد لمصريين خلصاء. زد علي هذا أن أبناء وزير الصحة تجري في عروقهم دماء مصرية لا تقل نسبتها عن خمسة وسبعين في المائة، وأن أخوة نائب رئيس الجمعية مصريو الجنسية ويقيمون بمصر بصورة دائمة.
جرت في المجلس الاستشاري مداولات ومناقشات كثيرة حول دستور الجمعية، وكانت الآنسة برهام حاضرة وشاهدة علي تلك المناقشات.  اقترح أحد من ذكرنا أعلاه قبول المقترح كما قدم دون زيادة أو نقصان، وكان من الممكن أن يمرر المقترح بالإجماع لولا تدخل رئيس المجلس البريطاني بنفسه مع واحد أو أثنين من السودانيين الذين وقفا ضد المقترح بشجاعة، وهزم المقترح بأغلبية ضئيلة. وحتى بعد المداولات وبعض التعديلات علي الدستور (التي أجازها المجلس الاستشاري بصورة عامة على أن تخضع لمزيد من النقاش والتعديل) فإنها قد قوبلت بمعارضة ومقاطعة من قبل غالبية الطبقة المستنيرة في البلاد، تساندنهم في ذلك طائفة الختمية التي تزعم أن أتباعها يمثلون غالبية سكان السودان. ولزم زعيم الختمية بحكمة معهودة الصمت حيال هذا الأمر، بينما ساندها حزب الأمة والصحف التي تتحدث بلسانه. وما أن انقضت شهور قليلة حتى بانت عيوب ونواقص الدستور كآلية لحكم البلاد، مما دعا المستعمر لإعادة النظر في أمر تعديله بصورة جذرية. ولن أقوم هنا بتعداد تلك العيوب والنواقص، بيد أني أنصح الآنسة برهام بالنظر في أرشيف مداولات مكتب العلاقات الخارجية السودانية. ويكفي هنا أن نذكر أن أغلبية أعضاء الجمعية لا يحسنون معرفة جغرافية بلادهم، بينما كان الواحد منهم ينال مرتبين منفصلين من أموال دافع الضرائب ، وهو بذلك يدين بالولاء لجهتين منفصلتين لا يجوز الجمع بينهما؛ فالجمعية التشريعية التي تنعقد فقط لشهور قليلة في كامل العام ليس بمقدورها أن تسن أي تشريعات، والوزراء ووكلاء وزارتهم من السودانيين يعينون من قبل رؤساء المصالح البريطانيين الذين بمقدورهم استبعاد العناصر الوطنية القوية، ومن وراء أولئك يقف الحاكم العام البريطاني الذي يملك كامل السلطات.
كان الوزراء ووكلاء الوزارات السودانيون يلوذون بالصمت العميق، أو ينسلون خلسة من قاعة المجلس ويذهبون إلي الكافتيريا واحداً بعد آخر عندما تبدأ مناقشة الموضوعات الهامة مثل الاقتصاد أو الحريات الفردية أو رأس المال الأجنبي، ويبقى نائبا رئيس المجلس اللذان يفترض أن يمثلا جناحي المعارضة) بدون "جمهور مستمع" خلا قلة من الذين لا يكادون يفقهون قولا، وبالطبع تكون نتيجة المداولات مضمونة سلفاً.
لكن دعنا نكون عمليين وندقق النظر في حالنا كسودانيين. إننا كسودانيين بكل الألوان والسحنات نعلم تمام العلم أن مصيرنا ومستقبلنا مرتبط تماماً بالإمبراطورية البريطانية وأنه ليس لمصر القوة اللازمة لتفرض حلاً عادلاً لقضية السودان، وأن مجلس الأمن ما هو إلا مجموعة من أفراد عصابة قامت بطرد مليوني من العرب غير المسلحين، وقادتهم إلي الردى والبؤس خارج ديارهم وأراضيهم التي ظلوا يفلحونها منذ ألفين من السنين. ويعلم السودانيون أن التحول إلي الشيوعية لا يتماشى مع مبادئ العقيدة الإسلامية، وأنه ليس بوسعهم أن يظلوا قاعدين دون فعل شئ، فذلك أمر مثير للملل كما أنه عديم الجدوى! إننا شعب فقير جاهل نفتقر إلى التسليح، ونعلم أن السيوف التي استخدمها آباؤنا في الماضي لن تجدي فتيلاً في عصر الذرة والسرعة التي تفوق سرعة الصوت. إن بلادنا كغيرها من البلاد الصغيرة واقعة تحت ضغوط هائلة لتتبع آثار أحدى القوى العظمى ذات الأيدلوجيات البشعة. بيد أن طريقنا واحد. نعلم أنه لا قبل لنا بطرد البريطانيين بالقوة، ولا نرغب في ذلك في الوقت الحالي. لو قدر للسودانيين أن يجتمعوا على قول واحد، وطالبوا بخروج البريطانيين من البلاد، لوضعوهم في وضع لا يحسدون عليه. بيد أن البريطانيين كانوا أحرص الناس علي أن لا يحدث ذلك أبداً. لقد كسبنا من حكم البريطانيين خيراً كثيراً، فنحن الآن ننعم بصحة وتعليم ورفاه وأمن وهدوء أكثر مما عرفه آباؤنا بما لا يقاس. نحن ننعم بعقول أنظف وبيوت أنظف، ومطالبتنا الآن بحريتنا هي مما يحسب للبريطانيين. لكن لابد من القول أن وتيرة تقدمنا في مسيرة التطور والتحضر التي يقودها البريطانيون لا تسير بالسرعة التي نطمح إليها،  وإن ثمار التقدم التي جنيناها حتى الآن هي أقل مما نستطيع مضغه وبلعه.

رافضو التطعيم في الماضي والحاضر

بقلم: روبرت وولف و ليزا شارب
ترجمة : بدر الدين حامد الهاشمي

نشر الأمريكيان روبرت وولف وليزا شارب (من جامعة نورث ويسترن بشيكاغو) ورقة نشرت في المجلة الطبية البريطانية في عددها رقم 325 بتاريخ 24 أغسطس 2002 عن ماضي وحاضر الرافضين للتطعيم. ولما كان هنالك الآن اتجاه في السودان (خاطئ ومضر في نظري) يقوده الشيخ/ صادق عبد الله عبد الماجد ضد تطعيم الأطفال بدعوي أنه "مؤامرة يهودية صهيونية ماسونية ..." بحسب ما ورد في مقابلة أجرتها معه قناة الجزيرة قبل شهور، رأيت أنه من المناسب ترجمة هذا المقال ونشره حتى نعلم أن الشيخ ليس وحيدا في رفضه للتطعيم وأن آخرين كثر (حتى في البلاد التي جاءت منها فكرة التطعيم) يرفضونها أيضا لأسباب متنوعة، تماما كما أن الشيوخ الذين يرفضون القبول بكروية الأرض ليسوا "أفذاذا متفردين" بل سبقهم – حتى في هذا الرأي المخطئ- جماعات عديدة في العالم الغربي!

ملخص الورقة:
1.  يعتبر الطبيب العمومي البريطاني إدوارد جينير (1749- 1823) هو أول من أدخل فكرة التطعيم في الوسط الطبي وانتشرت من بعد ذلك حملات التطعيم في بدايات القرن الثامن عشر
2.  سنت بين أعوام 1840 و 1854 قوانين تجعل التطعيم إلزاميا في بريطانيا. تلي ذلك مباشرة تكوين جمعيات لمناهضة التطعيم قامت بمعارضة تلك القوانين لانتهاكها الحرية المدنية.
3.  تم في عام 1898 تعديل قانون التطعيم ليستثني أطفال من يعارضون التطعيم لأسباب تتعلق بالضميرconscience)) وأدخل بذلك في القانون الإنجليزي مفهوم تعطيل نفاذ قانون ما لمخالفته ضمير معتقد في شأن يقع تحت طائلته.
4.  استمرت الجمعيات المناهضة للتطعيم في العمل حتى القرن الواحد و العشرين، ولأفرادها الآن وجود بارز في الشبكة العنكبوتية (الإنترنيت) ، وهم مستمسكون بعروة ذات الأفكار التي كان يستشهد بها من سبقوهم في القرن التاسع عشر.
يعد إصدار قانون التطعيم البريطاني لعام 1840 أول "تعد" من الدولة (بذريعة الصحة العامة) علي الحريات المدنية التقليدية، وتعتبر نشاطات الجماعات الحالية المناهضة للتطعيم امتدادا لنشاط من سبقهم من جماعات في أواخر القرن التاسع عشر دون تغيير يذكر في الآراء أو الحجج المساقة لرفض التطعيم. وينشط أفرادها – خاصة في مواقع الإنترنيت- في حملتهم المعارضة للتطعيم بكافة صوره مما قد يكون له آثار ضارة علي معدلات الذين يتلقون التطعيمات. و يعتقد الكثيرون أن هذه المعارضة أمر مستجد و حدث فقط مع ازدياد أعداد التطعيمات التي يتلقاها الفرد الآن. ولكن في الحقيقة بدأت مناهضة فكرة التطعيم بٌعيد وقت قليل من إدخال التطعيم ضد مرض الجدري و لم تخب نار تلك المعارضة إلي اليوم. لقد اختلفت وسائل نشر المعلومات عند الرافضة منذ القرن التاسع عشر بيد أن ما يحدثه رافضو التطعيم من تأثير في بريطانيا و الولايات المتحدة ظل على وتيرته قوياً نافذاً منذ ذلك التاريخ . كتب المؤرخ مارتن كاوفمان عن حركة المناهضين للتطعيم في أمريكا في القرنين التاسع عشر و العشرين فقال : "ومع تحسن الممارسة الطبية و مع القبول المتزايد لدور الحكومة الفيدرالية في الصحة العامة بدأ نفوذ الجماعات المناهضة للتطعيم في الخفوت والذبول و الانزواء إلي أن انهارت تلك الحركة بالكامل".
نأمل في هذه السطور عن تاريخ الحركات المناهضة للتطعيم أن ننبه العاملين بالحقل الصحي (و غيرهم...المترجم) للتطورات التاريخية التي لازمت قيام هذه الحركات و عما تستند إليه في دعواها في رفضها للتطعيم.
بدأ التطعيم في الانتشار في بدايات القرن التاسع عشر بعد أن قام الطبيب العمومي الإنجليزي إدوارد جينيرز بتقديم مقال للجمعية الملكية في لندن عام 1796 مفصلا فيه نجاحه في حماية ثلاثة عشر فردا من مرض الجدري وذلك بحقنهم بسائل أخماج حية (live infectious) مأخوذ من قروح وقشور مصابين بالجدري البقري. تسببت تلك العملية في إحداث مرض الجدري البقري (وهو مرض حمي (فيروسي) خفيف الوطأة) و إعطاء مناعة ضد مرض الجدري. أسمي إدوارد جينيرز المادة التي قام بحقنها "vacca " وهي مأخوذة من الكلمة اللاتينية والتي تعني بقرة، و أسمي العملية كلها vaccination (و تترجم بكلمة تطعيم أو تلقيح أو تحصين، ويسميها أهلنا أحيانا القروحة...المترجم).
رغم كل ذلك فإن المجتمع العلمي الطبي لا يعتبر أن إدوارد جينيرز هو الذي "اكتشف" التطعيم ، بل يعد أول من أعطي دليلا علميا علي فائدة التطعيم وله الفضل في جعله منتشرا ومقبولا لدي العامة.
قانون التطعيم (1840 -1898) ومقاومة التطعيم:
نص قانون التطعيم في المملكة المتحدة لعام 1840 علي أن يكون التطعيم بالمجان للفقراء و منع ما كان يعرف ب(inoculation / varilation) وهو ما كان يمارس من حقن لمادة الجدري في مكان مخبوء في الجسم (حتى لا يحدث تشوها خلقيا في مكان ظاهر من الجسم عند حدوث المرض). نص قانون تطعيم آخر صدر في عام 1953 علي جعل التطعيم إلزاميا لكل الأطفال في شهور حياتهم الثلاث الأولي، ونص علي سجن أو تغريم الآباء الذين لا يقومون بتطعيم أبنائهم. ثم صدر قانون آخر في عام 1867 رفع سن التطعيم الإجباري إلي سن أربعة عشر عاما مع فرض عقوبات تراكمية علي المخالفين. مثلت هذه القوانين "ابتداعا" سياسيا من الحكومة لتوسيع دائرة سلطاتها و نفوذها بذريعة الصحة العامة علي مناطق كانت محمية تقليديا بسياج من الحريات المدنية.
بدأت حملات مناهضة هذه القوانين مباشرة بعد أول إصدار لها في عام 1853 وقامت مظاهرات معارضة في إيبسويش وهنلي و متفورد ومدن أخري. تم في ذات العام تكوين رابطة مناهضة التطعيم في لندن وعدت هذه الرابطة مثابة لرافضي التطعيم و مركزا حيويا لهم. تلي إصدار قانون عام 1867 قيام المناهضين للتطعيم بتركيز جهودهم علي أن تلك القوانين تنتهك الحرية الشخصية و تحرم الفرد من حرية الاختيار، و كونوا رابطة لمناهضة التطعيم. قام هؤلاء بنشر بيان مكون من نقاط سبع ثبتوها علي رأس صحيفتهم المسماة
National Anti- Compulsory Vaccination Reporter تبدأ ب:
1. يجب علي البرلمان تولي حماية كل حقوق الإنسان
2. لقد أدي البرلمان دورا معاكسا لما كان ينبغي أن يقوم به عند إصداره لقوانين التطعيم التي تنتهك حق الأبوين في حماية أطفالهم ضد الأمراض
3. بدلا من أن يحمي البرلمان حرية الفرد فلقد قام بالعدوان علي هذه الحرية بجعل الصحة الجيدة جريمة يعاقب عليها القانون أبوين مخلصين في تربية أبنائهم بالسجن أو الغرامة المالية. إن ذلك لما يستوجب الإدانة و الشجب.

ويليام هيوم روزري. رئيس رابطة مناهضي التطعيم. 1878.
ظهرت في أعوام السبعينات و الثمانيات من القرن التاسع عشر العديد من الكتب و المجلات التي تتحدث بلسان مناهضي التطعيم و من تلك المجلات The Anti-Vaccinator التي أسست في عام 1869 و National Anti-Compulsory Vaccination Reporter الصادرة في 1874 وVaccination Inquirer الصادرة في 1879. و ظهرت بعد ذلك عدة حركات مشابهة في دول أوروبا الأخرى. ففي مدينة ستوكهولم السويدية مثلا رفضت غالبية السكان التطعيم و عند حلول عام 1872 كان عدد الذين تم تطعيمهم لا يزيد عن 40% من السكان، بينما كانت نسبة المطعمين في مناطق السويد الأخرى تفوق التسعين في المائة. دعا ذلك الوضع الذي كان ينذر بحدوث أوبئة وشيكة الطبيب المسئول عن الصحة د/ جرهاس كي ينادي باتخاذ إجراءات أكثر حزما مع رافضي التطعيم. وحدث ما كان يخشاه الرجل، فلقد وقع وباء ضخم في عام 1874 هز المدينة فهرع الناس إلي مراكز التطعيم و بذا تحاشوا حدوث المزيد من نوبات الوباء.
تزايد الضغط الشعبي من قبل المناهضين للتطعيم في بريطانيا العظمي. اضطرت السلطات لفتح ملف التطعيم في 1885 و ذلك بعد أن قام معارضو التطعيم بمظاهرة ضخمة في مدينة ليستير أمها بمائة ألف شخص. عينت الحكومة لجنة تحقيق ملكية لبحث مظالم المناهضين للتطعيم و لسماع آراء المؤيدين و المناهضين للتطعيم. ظلت لجنة التحقيق تعمل لسبع سنين متصلة لسماع كل الآراء.خرجت اللجنة في تقريرها الصادر في 1896 بخلاصة مفادها أن التطعيم يحمي من مرض الجدري، بيد أنها ، و كبادرة حسن النية و إرضاء لمعارضي التطعيم، فلقد أوصت اللجنة بمنع العقوبات التراكمية. أدخل في قانون التطعيم لعام 1898 بندا يمنع العقوبات التراكمية و أدخلت بندا يتعلق بأن يعمل المرء بما يمليه عليه ضميره (conscience clause) ويسمح للآباء والأمهات الذين لا يؤمنون بفعالية التطعيم أو سلامته بالحصول علي شهادة إعفاء من التطعيم. أدخل هذا القانون مفهوم المعارض بوحي من الضمير ((conscientious objector)) في القانون الإنجليزي.
أمريكا الشمالية:
مع نهاية القرن التاسع عشر بدأ النشاط المعارض للتطعيم في الازدياد رغم أن حملات التطعيم الضخمة في بداية ذلك القرن كانت قد نجحت في كبح انتشار وباء الجدري، وتوقفت التطعيمات ولم يعد هناك ما يمكن التطعيم ضده. ولكن في بداية سبعينات القرن التاسع عشر انتشر الوباء مرة أخري فقامت الولايات بإعادة تفعيل قوانين التطعيم وسن قوانين جديدة للتطعيم. أثار ذلك حملات احتجاج عنيفة علي قوانين التطعيم. جاء وليم تب كبير مناهضي التطعيم في بريطانيا لمدينة نيويورك في عام 1879 و ساهم في تكوين الجمعية الأميركية لمناهضة التطعيم، و توالي من بعد ذلك تكوين الجمعيات في مختلف الولايات. قامت هذه الجمعيات بحملات احتجاج أثمرت عن سحب العقوبات المنصوص عليها في قوانين التطعيم في ولايات كاليفورنيا و إلينوي و إنديانا و مينيسوتا و غرب فيرجينيا و يوتا وويسكنسون. قامت جمعيات مناهضة التطعيم بالتقدم للمحاكم بشكاوي ضد الحكومات المحلية و وزارات الصحة الولائية ، و أشعلت نيران المعارضة ضد قوانين التطعيم فاندلعت المظاهرات في مونتريال و ملواكي.
رافضو التطعيم بين قرنين:
أدي ازدياد الموجات المناهضة للتطعيم في القرن العشرين إلي ازدياد اهتمام وسائل الإعلام بالحركات المناهضة لتطعيم الأطفال. عند المقارنة بين حجج المناهضين للتطعيم قبل قرنين و حججهم الآن لا نري كبير فرق، مما يدلل علي اعتقاد عميق لا يتزحزح وولاء مطلق لا يتبدل و تتداوله الأجيال جيلا بعد جيل حملا لذات الأفكار التي كان يحملها من ابتدروا معارضة تطعيم الأطفال. تدعوا هذه المقارنة إلي أن تتفهم المؤسسة الطبية أن مناهضي التطعيم شديدو الإيمان بمبادئهم و غالبا ما تكون أفكارهم المعارضة مبنية علي أسس فلسفية أو روحية، و أن هذه الأفكار المعارضة لم تتغير أبدا لنحو قرنين من الزمان. و تشمل أفكار هذه الجماعات المناهضة للتطعيم نظريات المؤامرة، و أيضا تشمل أفكارا مركبة لمتعلمين له خبرة و دراية ناقدة بالأدب الطبي و العلمي و يحملون معتقدات معينة في أمور الطبيعة و البيئة و الشفاء ووسائله.
يعد التطعيم من بين كل المتطلبات الطبية في العصر الحديث أمرا فريدا، إذ يتطلب من المرء أن يقبل بأن يحقن بدواء أو مادة طبية في داخل جسمه، وبأنه أثار موجة معارضة نشطة. بدأت تلك المعارضة مع أول تطعيم ضد الجدري منذ قرنين ولم يخب أوارها إلي اليوم وربما لن يفعل أبدا. وهنا توجد معضلة أمام الوسط الطبي حول كيفية مجابهة الرافضين للتطعيم. إن تجاهل هؤلاء الرافضين سوف يعرض صحة المجتمع للخطر، بينما ستحدث خروقات وتعديات خطيرة علي قيم الحريات المدنية وحرية التعبير إن واجهت الدولة معارضي التطعيم بالقوة. لن يبرح هذا التوتر الخلاق مكانه بيننا ولن تفلح القوة وحدها في القضاء عليه.

تلك الرائحة

من الروايات التي أعجبت بعنوانها قبل قراءتها هي رواية "تلك الرائحة"  لصنع الله إبراهيم، ومن عجب فلقد قرأت تلك الرواية بعد سنوات من صدورها مترجمة للإنجليزية في سلسلة روايات أفريقية أصدرتها دار نشر هينمان وذلك قبل أن تصدر في الخرطوم بعد انتفاضة أبريل 1985. ولست معنيا هنا بتلك الرواية بقدر عنايتي ب "الرائحة" والذكري التي تبقيها في تلافيف الدماغ. فمن منا يشم رائحة "الأبري" فلا تقفز إلي ذاكرته أيام رمضان، خاصة أيام الطفولة الباكرة، ومن منا يشم رائحة عطر ما فتذكره بمواقف معينة مخبوءة في الدماغ رغم تطاول السنين. أسر لي صديق بأنه عندما كان صغيرا كان يجد في شم موضع الإبط من قميص والده الغائب عزاء وسلوى وراحة نفسية، وكبر وهو موقن أن ذلك كان فعلا غريبا شاذا، إلي أن قرأ أن الروائح لها "ذاكرة، وهي شديدة التأثير على السلوك البشري، وتنشط مناطق كثيرة في الدماغ فتجعل الواحد منا يتذكر أشياء حدثت له قبل سنوات كثيرة مضت.
ومن ما ورد في قصص القرآن الكريم (ولعلها وردت أيضا في الإنجيل) وله علاقة بالرائحة قصة سيدنا يوسف ووالده سيدنا يعقوب. إذ أن يعقوب ظل متعلقا بأمل لقاء ابنه الذي ضاع منه وهو صبي صغير، ودارت الأيام، وغدا الصبي الضائع ملكا عظيما، وأرسل قميصه للوالد الذي ابيضت عيناه من الحزن. وقبل وصول القميص يقرر الوالد الضرير أنه يجد (يشم) ريح يوسف (ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون)، وكأن ريحه قد وصلت لوالده فشمها وتيقن أن ابنه الغائب حي يرزق. يفيدنا موقع يسمى "موقع عبد الدائم الكحيل للإعجاز العلمي في القرآن والسنة" أن العلماء قد وجدوا آثارا لعضو ضامر في الحيوانات يسمي (vomeronasal organ)ويسمي أيضا علي اسم عالم بحث في أمره "عضو جاكسبون". ثبت وجود هذا العضو في الحيوانات ولم يقم علي وجوده عند البشر (بعد سؤالنا لأهل الذكر) دليل يعتمد عليه، بينما يدعي صاحب الموقع المذكور أن العضو يقع في الدماغ خلف فتحتي أنف الإنسان، وكان في يوم ما يلتقط الإشارات الكيمائية البعيدة الصادرة عن أشخاص آخرين، وأن هذا العضو الضامر كان عبارة عن ثقبين صغيرين يلتقطان الإشارات الكيميائية التي يفرزها أشخاص آخرون ويحتوي على مجموعة من الأعصاب تستطيع تحليل هذه الإشارات والتعرف علي صاحبها. يقال أن هذه الخلايا العصبية كانت فعالة منذ الآلف السنين ولكنها فقدت حساسيتها مع الزمن ولم يعد لها مفعول يذكر. والمبالغة وعدم الحرص على دقة المعلومة معروفة ومشهودة عند أصحاب المواقع، خاصة تلك التي تريد أن تلزم نفسها بما لا يلزم من محاولة إثبات مقولات دينية نؤمن بها سلفا عن طريق تطابقها مع مكتشفات العلم الحديث، وما كان أغناهم عن ذلك!
أما الإشارات الكيمائية بين الحيوانات فإن أمرها معروف، وهي روائح تشبه الهرمونات (وتسمى فيرمونات) تطلق أثناء الخوف أو كتحذير أو في موسم التزاوج، ويعتقد دون دليل قوي- في وجودها عند البشر أيضا، وهي إشارات كيميائية تميز كل فرد عن الآخر، بل ويدعي البعض من تجار هذه المواد أنها تميز الرجال عن النساء، ولها علاقة بالجاذبية التي تمارسها المرأة علي الرجل! ومن الفرضيات التي لم تؤكد بعد أن الفرد منا له "رائحة" خاصة لا يشاركه فيها أحد مثل البصمة في تفردها. قمت ببحث صغير في ما هو منشور في الأدب العلمي فثبت عندي أن وظائف ذلك العضو الضامر المذكور، ووجود "فيرمونات" للتواصل "الشمي" بين البشر هي من الأمور التي ثار حولها جدل كبير امتد سنين عددا، ولما يصل العلماء فيه (كدأبهم دوما) لرأي حاسم قاطع، ومن الغش والتدليس أن يتاجر البعض بمثل تلك المواد من أجل المال وبيع وهم أن هنالك مادة تحبب الرجل في المرأة (وبالعكس)، مثل "عروق المحبة" التي يتهافت عليها بعض العشاق (من جانب واحد! .(
ومن الدراسات المعقدة جدا التي يجريها العلماء في المعامل البحثية المتخصصة هي كيفية فهم الدماغ للغة للروائح وتفسيرها، وهي عمليات كيميائية حيوية وفيزيلوجية يصعب تبسيطها، بيد أنها تشير إلي أن بوسع الدماغ تلقي إشارات بالروائح المختلفة وتصنيفها، ومن ثم ربطها ما هو مخزون في ذاكرة الإنسان.
من الأبحاث التجريبية الحديثة والمعمقة  التي تناولت حاسة الشم (والتي لا تخلو من بعض غرابة) ما نشر حديثا من أن "الحالة النفسية" لجرذان/فئران المعمل تنصلح (وكثيرا جدا) عند شمها لرائحة حبات البن وهو يحمص... ولا يأخذنك العجب من أن تلك الحيوانات "البكماء" بحسب ظننا السيئ لها إحساس وشعور وقد تصاب بالقلق والاكتئاب والتوتر (وكل المشاعر التي تعتري بعض بني آدم، وإلا لما أمرنا رسولنا الكريم (ص) بتحاشي ذبح الحيوان ورفيقه ينظر، وعدم فجع الطيرة بأخذ بيضها)، ومن هذا المنطلق يحدث العلماء هذه "الحالات النفسية" في حيوانات التجارب بوسائل مختلفة، ويجربون فيها مختلف الأدوية والعقاقير (وعند المختصين فإن العقاقير هي فقط ما هو مستخلص من أصل نباتي) وينتقون منها ما يكون آمنا وفعالا لتجريبه علي الأصحاء ومن ثم علي المرضي. في التجربة تم إحداث الإجهاد والتوتر عند الجرذان بحرمانها من النوم (وهي حيوانات ليلية تجعل- بعكس البشر- الليل معاشا والنهار لباسا تنام خلاله) ووضعت بحيث "تتكرف" رائحة حبات القهوة وهي تحمص، فإذا بها تصحو وتنشط ويزول من بها من أعراض إجهاد وتوتر. بالطبع لم تكن التجربة بتلك البساطة (وإلا لما كان حد غلب، كما يقول المصريون)، إذ أن علماء البيولوجيا الحيوية استخدموا "آخر ما توصل إليه العلم الحديث" (كما تقول دعايات الإعلام الحكومي وهي ترينا افتتاح مشافي القرى والدساكر)، وذلك بدراسة المورثات (الجينات) عند تلك الحيوانات، فوجد أن إحدى عشر مورثا جينا قد نشطت بعد شم رائحة القهوة وهي تحمص، وهي مورثات تتحكم في إطلاق المواد المانعة للأكسدة والمسببة للاسترخاء. وثبت أن هذا التأثير مختلف عن التأثير الذي يحدثه شرب القهوة المعروف، والذي يساعد علي إزالة النعاس وجلب النشاط بفعل مادة الكافيين المنبه، والقهوة – كما ذكرنا في مقال سابق- من المواد المزيلة للاكتئاب، بل قيل أنها مانع أكيد للانتحار عند من تراودهم مثل تلك الأفكار. وكعادة العلماء الثقاة الذين يقاومون نوازع النفس الأمارة بالسوء ويتخذون من الحذر والتواضع ديدنا لهم، فلقد وصف العلماء تجاربهم تلك بالابتدائية، وبأنهم لا يفهمون على وجه الدقة ما تعنيه نتائجهم علي وجه الدقة، بيد أنه من المؤكدة أن "رائحة" القهوة فيها من المواد المتطايرة ما يختلف عن ما هو موجود في شرابها، بل أن تأثير شم رائحة القهوة قد يكون مفعوله أقوى وأسرع من التأثير الذي يحدثه شرابها، فعند شرابها لابد أن تمتص المواد التي فيها من الأمعاء الدقيقة وتذهب إلي مجرى الدم حتى تصل الدماغ، بيد رائحة القهوة تصل بسرعة فائقة إلي الدماغ.
ونعود لموضع "الرائحة"، ونختم بما أورده د/ حسن موسي في موقع "السودان للجميع" من قول نافع تحت عنوان "جيوبوليتيك الشم؟" متناولا ما ورد من أحد المشاركين في الموقع عن ضيق ألم به من روائح بعض المسافرين من بني جلدتنا حين جاوروه في طائرة كان يستقلها، إذ قال ضمن ما قال: " الصـُناح "، و الصناح عربية سودانية، والمعجم يوردها بالميم " صُماح" و هي العرق المنتن، و السودانيون يقولون " الولد شمّ صناحُه" في معنى بلوغه مبلغ الرجال. وكيمياء العرق باب بحاله في لغة إيروس التي دبرها الطيب صالح في أكثر من موضع من " موسم الهجرة" كمكيدة أدبية عالية الكفاءة:  "كانت تدفن وجهها تحت إبطي وتستنشقني كأنها تستنشق دخانا مخدرا، وجهها يتقلص باللذة. تقول كأنها تردد طقوسا في معبد:أحب عرقك، أريد رائحتك كاملة".. و كما ترى فـ" صناح" البطل الإفريقي هنا يلاقي استقبالا مغايرا... ". ورائحة الجسد كما هو معلوم تتأثر بعوامل كثيرة تشمل ولا تقتصر على الطعام الذي يأكله الفرد، ومستوى نظافته الشخصية، وحالته الصحية، فلقد يفرز المصاب بنوع من سرطانات الجلد روائح لا يستطيع الواحد منا شمها، واستعملت الكلاب في بعض الأبحاث لتشخيص بعض حالات سرطان الجلد نسبة لقدرتها الفائقة علي الشم، بل وتسمي هذه الكلاب melanoma sniffing dogs، بينما يقال أن مرضي الرعاش (مرض باركنسون) يفرزون من جلودهم مواد دهنية كريهة الرائحة. وهذا موضوع، أو "فولة" لها كيال آخر! بيد أن أمر "رائحة الجسد" مبحث لا يخلو الخوض فيه من شبهة "إحراج"، وقد يأخذ ظلالا عنصرية تفوح منها رائحة التحامل النتنة، وهنا أذكر قول جدة عجوز لحفيد لها استشارها في أمر زواجه من جارة لهم، فلم تجد الجدة ما يمكن أن ترفض به تلك الفتاة غير أن تقول : "بس! ريحتها نحاس نحاس" فتأمل!

سر بين اثنين

الكاتب: كونتن رينولدز
ترجمة:  بدر الدين حامد الهاشمي

نبذة قصيرة عن المؤلفأصدر الكاتب الأميركي الجنسية كونتن رينولدز (1902م – 1965م) خلال مسيرته الأدبية الحافلة حوالي عشرين كتابا. عمل كمراس حربي في لندن وباريس وإيطاليا وجنوب الباسفيك خلال الحرب العالمية الثانية، ورصد مشاهداته في كتاب شهير صدر عام 1941م بعنوان «الجرحى لا يبكون». كما كتب عدداً من القصص القصيرة وسيرة حياته وسيَرُ حياة كثير من المشاهير مثل ونستون تشرشل والأخوة رايدر.
النص:
تعد مونتريال من المدن الكبيرة جداً، بيد أن بها - مثلها مثل كل المدن الكبيرة - أزقة ضيقة جدا... هنالك مثلاً شارع الأمير إدوارد، والذي لا يتعدَّى طوله أربعة مجموعات سكنية تنتهي بشارع مقفول. لا أحد يعرف شارع الأمير إدوارد مثل بيير دوبن، وكيف لا وبيير دوبين هذا هو بائع اللبن الذي ظل يمد زبائنه في ذلك الشارع باللبن طوال الثلاثين سنة الماضية.
خلال الخمسة عشر عاماً الماضية ظل بيير يوزع اللبن على عربة يجرها حصان أبيض ضخم اسمه جوزيف. إنهم في مونتريال (خاصة في مناطقها الناطقة بالفرنسية) يسمون الحيوانات بأسماء القديسين مثلهم مثل الأطفال. عندما انضمَّ ذلك الحصان الضخم لخدمة شركة اللبن في المنطقة لأول مرة لم يكن يحمل اسما. أعطوه لبيير دون اسم ليجر عربة الحليب... مرر بيير يده برفق على عنق حصانه، وربت على جانب بطنه ثم حدَّق في عينيه وقال:
«يا له من حصان عطوف، لطيف ومخلص. إنني أرى روحاً نبيلة تشع من عيني هذا الحصان. إنني سأعطيه اسم القديس العطوف اللطيف المخلص جوزيف».
لم ينقضِ عام إلا وجوزيف خبير بكل الطرق التي خبرها بيير، ولم يكن في حاجة لأن يقيده صاحبه بلجام. كان بيير يصل إلى إسطبل الشركة في الخامسة صباحا، ويلقي على جوزيف تحية الصباح، ثم يربطه بالعربة، ويأخذ مقعده. يلتفت الحصان نحوه، ويزعم السائقون الآخرون وهم يبتسمون أن جوزيف يبتسم محيياً صاحبه كل صباح. يصيح جاكوس رئيس العمال بجوزيف أن انطلق. يهمس بيير لحصانه الأثير قائلاً: «فلنتحرك يا صديقي العزيز». ويمضي الصديقان يجوبان شارع الأمير إدوارد في فخر.
تنطلق العربة دون أي توجيه من بيير وتعبر ثلاثة مجمعات سكنية في شارع القديس كاثرين، ثم تدلف يميناً عبر مجمعين سكنيين في شارع روزلين، ثم تعطف يساراً حيث يقع شارعنا، شارع الأمير إدوارد. يقف الحصان جوزيف أمام البيت الأول، ويعطي صديقه بيير نحو نصف دقيقة لينزل من مقعده ويضع قارورة اللبن أمام الباب الأمامي للدار، ثم تمضي العربة متخطية بيتين وتقف أمام البيت الثالث، وهكذا إلى أن يكتمل المرور على البيوت في الشارع. ثم يدور جوزيف بالعربة من دون أي توجيه من بيير ليعود من حيث أتي. نعم، كان جوزيف حصاناً ذكيا.
وفي الإسطبل كان بيير دائم التفاخر بحصانه الذكي ويكرر القول بأنه لا يمس اللجام، وأن جوزيف يدرك جيداً أين يجب عليه التوقف، بل إن رجلاً كفيفاً بمقدوره أن يقود العربة التي يجرها ذلك الحصان الذكي.
ومضت السنون، ولم يتبدل شيء ما غير أن بيير وجوزيف أصابهما الكبر معا، ليس على نحو مفاجئ بالطبع، ولكن بالتدريج البطيء. اشتعلت شوارب بيير الكثة شيبا، ولم يعد جوزيف يرفع رأسه كثيراً ويلتفت كما كان يفعل قديما. لم يلحظ جاكوس رئيس العمال أبداً أن بيير قد أدركه الكبر حتى أتاه بيير ذات يوم يتوكأ علي عصا ثقيلة.
صاح جاكوس في بيير مداعباً وهو يضحك: «مرحباً يا بيير. لعلك أصبت بداء النقرس؟»
أجاب بيير دون أن يعي ما يقول وهو غير متأكد تماماً «بالطبع... بالطبع يا جاكوس! الواحد منا يكبر وتوهن منه القدم».
«يجب عليك أن تدرب ذلك الحصان على حمل قناني اللبن للأبواب... إنه يفعل كل شئ سوى ذلك»!
كان بيير يعرف كل فرد من أفراد الأربعين عائلة الذين كان يخدمهم في شارع الأمير إدوارد. كان الطهاة يعلمون أن بيير أمي لا يقرأ ولا يكتب. لذا فإنهم عوضاً عن القيام بفعل ما اعتادوا عليه عند حاجتهم لرطل إضافي من اللبن بترك رسالة قصيرة في داخل قارورة فارغة فيها ما يطلبون، كانوا في حالة بيير يشيرون إليه من بعيد عندما يسمعون دمدمة عجلات عربته وهي تطرق الشارع المرقع. كان بيير كثيراً ما يرد على إشاراتهم في مرح وهو يقول: «لديكم الليلة ضيف على العشاء إذن».
كان لبيير ذاكرة من حديد لا تكاد تفرط في شيء. ما أن يخطو إلى داخل الإسطبل حتى يقول لجاكوس: «لقد أخذت عائلة باكوينز رطلاً إضافياً هذا الصباح، وأخذت عائلة ليمونيز رطلاً من القشطة»، ويقوم جاكوس بتسجيل كل ذلك في مدونة صغيرة لا تفارق جيبه أبدا. كان أغلب السائقين يقومون بكتابة فواتير ما يبيعونه أسبوعيا، وتحصيل ثمنها، بيد أن جاكوس – لحبه لبيير - أعفاه من تلك المهمة الكتابية. كان كل ما على بيير فعله هو أن يظهر في تمام الخامسة صباحاً أمام الإسطبل ويذهب إلى عربته التي كانت تقف دوماً في ذات المكان على الشارع، وأن يوزع اللبن في ذلك الشارع. كان يعود للإسطبل بعد نحو ساعتين، وينزل بصعوبة من مقعده، ويصيح بالجميع «أور فوار... إلى أن نلتقي»، ويمضي لحال سبيله وهو يعرج قليلا.
ذات صباح أتى مدير شركة الألبان في جولة تفتيشية على الموزعين. أشار رئيس العمال جاكوس إلى بيير وقال للمدير الزائر: «لاحظ كيف أنه يتحدث مع حصانه، وكيف أن الحصان يصغي باهتمام ويلتفت نحو بيير! انظر إلى عيني ذلك الحصان! أكاد أجزم بأن لدى هذين الاثنين سراً مشتركا. لقد لاحظت ذلك أكثر من مرة. كثيراً ما يبدو أنهما يسخران منا، بل يضحكان علينا وهما يغادران الإسطبل في طريقهما إلى شارعهما الصغير». ثم أضاف في لهجة يشوبها بعض القلق: «إن بيير رجل جيد يا سيدي الرئيس، لكنه طعن في السن. لا أدري هل من اللائق أن أقترح عليك أن يتقاعد الرجل وأن ينال معاشاً صغيرا»؟
ضحك الرئيس وهو يقول: «طبعا... طبعا. لقد قرأت ملف الرجل. لقد قضى في توزيع اللبن لسكان هذا الشارع ثلاثين عاماً دون أن يشتكي أحد منه ولو لمرة. هلاَّ أخبرته أن عليه أن يستريح وسنواصل دفع مرتبه كالعادة».
رفض بير أن يستقيل. أصابه رعب شديد من مجرد فكرة أن لا يقود جوزيف كل يوم. قال في ذلك وهو يخاطب جوزيف: «إننا رجلان عجوزان. دعنا نمضي بقية العمر معا. عندما يتقاعد جوزيف، فسوف أتقاعد أنا أيضا».
تفهم جاكوس – وهو رجل طيب - ما يقوله بيير. كان هنالك  شئ ما في جوزيف وبيير يجلب الابتسام الودود. كان الواحد منهما يبدو وكأنه يستمد قوة خفية من وجود الآخر.  كان كبر سنهما يتبخر ثم يختفي عندما يأخذ بيير مقعده في العربة وعندما يبدأ جوزيف في التحرك، بيد أن بيير كان يبدو عجوزاً جدا عند عودته من جولته الصباحية وهو يخطو نحو داره متعثراً عرجا، وكان جوزيف حينها يبدو عجوزاً أيضاً وهو مطأطأ الرأس يجرجر رجليه في بطء نحو إسطبله.
وذات صباح باكر بارد، والظلام لا يزال يخيم على المكان ألقى جاكوس بخبر وقع على بيير وقع الصاعقة. بدا الهواء ذلك الصباح كالنبيذ المثلج، وكانت كتل الجليد الذي تساقط خلال الليل تلتمع كملايين من قطع الجواهر الصغيرة بعضها فوق بعض.
قال جاكوس: «بيير. إن حصانك لم يستيقظ هذا الصباح. لقد طعن في السن. لقد بلغ من العمر خمسة وعشرين عاما، وهو عمر يماثل خمسة وسبعين عاماً عند الإنسان».
رد بيير ببطء قائلاً: «نعم... نعم. لقد بلغت أنا أيضاً الخامسة والسبعين. ولن يكون في مقدوري أن أرى جوزيف مرة ثانية».
طمأنه جاكوس بالقول: «بلى. يمكنك أن تراه مرة أخرى. إنه يرقد هنالك في مكانه المعتاد في الإسطبل وتبدو عليه السكينة. هلا ذهبت لتلقي عليه نظرة أخيرة»؟
تقدم بيير خطوة نحو الإسطبل ثم تراجع كالملسوع: «لا...لا... إنك لا تفهم يا جاكوس».
ربت جوزيف على كتفه وقال: «سنجد لك حصاناً في جودة جوزيف. ولن ينقضي شهر إلا وتكون قد علمته الطريق وما ينبغي عليه عمله... تماماً كما فعلت مع جوزيف. سوف...».
لم يكمل جاكوس جملته عندما رأى نظرة بيير وهو يسمع هذا الكلام. كان بيير ولسنوات طويلة يرتدي قبعة ثقيلة تكاد مقدمتها تغطي عينيه، يستخدمها ليدرأ عن وجهه لفحات الهواء البارد. تفحص جاكوس وجه بيير وعينيه فرأى هذه المرة ما راعه وملأه رعبا. رأى نظرة الذبول والموت في عيني بيير. كانت عيناه تفصحان عن ما كان يحسه من حزن عميق يعتصر قلبه وروحه. بدا وكأن قلبه وروحه قد ماتا.
قال له جاكوس: «خذ اليوم إجازة من العمل». بيد أن بيير لم يسمع... كان قد عبر الطريق وهو يعرج، وإن كان قدر لأحد من الناس أن يراه في تلك اللحظة فسيرى عينا الرجل وهما تدمعان ودموعه تبللان خدوده، وسيسمع صوت أنينه الباكي. مشى بيير نحو ركن الشارع وبدأ في العبور حين صاح قائد شاحنة ضخمة مسرعة منبهاً الرجل وهو يضغط على الكوابح محدثاً صوتاً يشبه صراخاً عاليا. لم يسمع بيير شيئا. مضت خمسة دقائق قبل أن تصل عربة الإسعاف، حيث أعلن قائدها أن الرجل كان قد مات على الفور.
هرع جاكوس ومعه عدد من موزعي اللبن إلى حيث الحادث، وألقوا نظرة على الجسد المسجى.
صاح قائد الشاحنة محتجا: «لم أستطع التوقف. لقد واصل السير نحو الشاحنة وكأنه لا يراها. مشى نحو الشاحنة وكأنه أعمى».
انحنى دكتور الإسعاف على جثمان بيير وهو يفحصه: «أعمى؟ نعم هو أعمى، ومصاب بماء العين (كاتراكت). لقد كان الرجل أعمى لمدة لا تقل عن خمسة سنوات». التفت نحو جاكوس وقال: «تقول إنه كان يعمل تحت إدارتك؟ ألم تعلم بأنه كان أعمى»؟
ردَّ جاكوس بما يشبه الهمس: «لا... لا... لم يكن أحد منا يعلم... واحد من أصدقائه فقط كان يعلم حقيقة أمره... صديق له يسمى جوزيف. لقد كان سراً مشتركاً بينهما.