بقلم: انيتا فابوس
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
(1)
مقدمة: هذا المقال القصير هو تلخيص لمحاضرة قدمتها انيتا فابوس عام 2008 في جمعية الدراسات السودانية ببريطانيا في اجتماع جمعيتها العمومية، ولكتاب حديث صدر لها بعنوان : ("أشقاء" أم غرباء؟ السودانيين المسلمين العرب، 2008). أخذت الكاتبة كل الأمثلة الأثنية في هذا المقال من بحث أجرته في القاهرة بين عامي 1994 – 1997م وقامت بتغيير أسماء الأشخاص الذين أوردت قصصهم هنا، باستثناء أسماء الشخصيات السياسية والتاريخية المعروفة مثل التجاني الطيب.
الآراء المذكورة في المقال المترجم تخص – بالطبع- الكاتبة، وقد لا تتفق بالضرورة مع بعض آراء ورؤى المترجم أو حتى السودانيين المهاجرين واللاجئين الشماليين والجنوبيين علي حد سواء.
بدأت بحثي عن العرب السودانيين المسلمين في مصر بأمر محير حفز فضولي يتلخص في أمر العلاقة بين السياسة الاجتماعية و"اللاجئين" وكيف يرى الناس قضية "الانتماء". عينت في عام 1991م كباحثة رئيسة في مشروع صغير يبحث في أمر المصادر والفرص الدراسية والتدريبية المتاحة للاجئين في القاهرة. كان الغرض الرئيس من المشروع هو الإستعراف علي هذه الفرص والمصادر المتاحة لغير المصريين، إذ أن أغلب الفرص والمصادر المتاحة مخصصة فقط للمواطنين المصريين. كان معظم اللاجئين الذين وفدوا علي مصر في أوائل التسعينات هم من السودانيين، خاصة الجنوبيين الذين تم إبعادهم من المعسكرات التي كانت مقامة حول العاصمة الخرطوم، والشماليين الذين هربوا من قبضة الحكم العسكري الذي جاء للسلطة بانقلاب في 1989م. وخلافا لما كان يتعرض له اللاجئون من ارتريا وإثيوبيا والصومال، فلقد سمح المصريون للاجئين السودانيين بالمشاركة في البرامج التعليمية المصرية، بل تبين من إجابات المصريين المشاركين في البحث أنهم كانوا يشجعون اللاجئين السودانيين علي المشاركة في هذه البرامج.
لكني كنت قد لاحظت أيضا أنه رغم أن الجنوبيين السودانيين كانوا يتكدسون في مراكز المساعدات الكنسية أملا في التقدم لبرامج إعادة التوطين التي تنظمها السفارات الغربية، فلقد كان السودانيون الشماليون يصرون علي أنهم ليسوا بلاجئين، ولن يقدموا لمثل تلك البرامج. إضافة إلي ذلك، فلقد كان المصريون يعدون السودانيين الجنوبيين "لاجئين" في مصر، بينما يقولون أن الشماليين السودانيين "هم مثلنا نحن". كان كثير من زملائي المصريين يقولون لي أن الشماليين السودانيين هم أخوة مسلمون وعرب و"أشقاء" من وادي النيل.
إلي وقت قريب كانت سياسة الحكومة المصرية تفرق تفريقا واضحا لا لبس فيه بين "المواطنين" و"الأجانب" فيما يتعلق بأمور الدخول والإقامة والحصول على الخدمات الحكومية والامتيازات، بل وحتى الدخول للأماكن السياحية. بيد أن المواطنين السودانيين كانوا يستثنون من هذه القوانين. يدفع معظم المهاجرين في مصر (حتى الذين عاشوا فيها لأجيال وأجيال) مصاريف باهظة لإدخال أبنائهم في المدارس الأجنبية واستئجار الشقق السكنية الغالية، ويدفعون أموالا كثيرة من أجل الرعاية الطبية الخاصة. كانت هنالك أمام المهاجرين الكثير من العوائق القانونية وغيرها لامتلاك العقارات، ولم يكن هنالك أمامهم من سبيل للتجنس بالجنسية المصرية إلا عن طريق الزواج من رجل مصري، أو عند صدور قرار رئاسي (في حالات نادرة جدا) بتجنيس مهاجر أو أكثر. وبصورة عامة لم تكن السياسة المصرية تشجع الاستيطان والتكامل بين المهاجرين، بل لقد وضعت مصر تحفظات متشددة علي قوانين الدولة الصادرة في عام 1951م التي تحد من حرية العمل والتعليم والرعاية الصحية للاجئين.
رغم كل ذلك فلقد ظل السودانيون يتمتعون – ومنذ زمن طويل- بما يتمتع به المصريون في بلادهم، وكأنهم بذلك نالوا ما يشبه الجنسية المصرية. وتم تقنين ذلك في عام 1982م بصدور قوانين التكامل بين مصر والسودان. إن هنالك الآلاف من السودانيين الشماليين الذين هاجروا لمصر قبل استقلال السودان واستقروا في القاهرة، حيث تلقوا التعليم المجاني في المدارس المصرية، وحظوا بفرص العمل أيضا. علي النقيض من ذلك، فإن كثيرا من المهنيين السودانيين من شمال السودان كانوا ينظرون إلي فترة هجرتهم في السنوات القليلة الماضية في مصر وكأنها سنوات "منفى". لم تجد خبراتهم المهنية سوقا لها في مصر، كما كانت أماكن سكناهم المفضلة بين أحياء الطبقة الوسطى غالية الثمن بالنسبة لهم، لذا فلقد بقت السياسة المصرية الخاصة بمعاملة السودانيين بالمثل سياسة نظرية، إذ أن السودانيين الشماليين وجدوا أنفسهم مجبرين على دفع أثمانا غالية نظير الخدمات الأساسية التي تقدم لهم. وما أن حلت أعوام منتصف التسعينات حتى بدأ الكيل يطفح بالسودانيين الشماليين وبدأوا يحسون بأنهم صاروا فئة "مهمشة". وزاد الطين بلة أن الحكومة المصرية ووكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (التي عهد بها تحدد وضع هؤلاء المهاجرين) لم تصنف إلا عددا لم يتجاوز عدد أصابع اليدين ك"لاجئين" حقيقيين. لم تشأ الحكومة المصرية رسميا أن تعد "الأشقاء" في جنوب وادي النيل كلاجئين، إذ أنهم "كأخوة عرب ومسلمين ومحاربين ضد الاستعمار" لم يأتوا لمصر طلبا للحماية، بل هم "بين أهلهم وذويهم".
لقد وضعت تلك السياسة "المحتارة/ المحتاسة؟" أمامي سؤالين عويصين. أولهما: كيف يتعامل صانعوا السياسة في الدولة المضيفة عندما يكون طالبوا اللجوء أناسا ينتمون لمجموعة قومية تشاركهم في الدين والثقافة والهوية التاريخية. وثاني الأسئلة هو: كيف لنا أن نفهم الهوية القومية/الوطنية في ظل غياب كامل لحدود قومية واضحة وجلية؟ وهذا هو موضوع بحثي الذي أجريته في القاهرة.
هويات "فوق- قومية/وطنية" في عالم يقوم على نموذج دولة الأمة:
كنت قد كتبت كتابي المعنون "أشقاء أم غرباء؟" كرواية من الروايات البوليسية التي قمت فيها بسوق القارئ عبر طرقي الخاصة المتشعبة التي تستكشف أحوال السودانيين الشماليين في مصر، وعن التحدي الذي يواجه الهوية السودانية حيال مسألة التفسيرات المعاصرة لكيفية خلق الناس للانتماء وكون المرء "من الآخرين". ومقالي هذا هو ملخص ملاحظات مفتاحية عن "سياسة اللاجئين" كشأن داخلي.
يجب في البدء أن نعي أن هنالك بالإضافة إلي"الهويات القومية/الوطنية" التي يعتقد كثير منا في ضرورتها، فإن هنالك أيضا "هويات شاملة" (وهي ترجمة غير حرفية لهويات مظلية umbrella) تشمل أعضاء القوميات أو حتى مجموعات من القوميات. استعمل هنا لفظة "هويات فوق القومية/الوطنية" حتى أبين التعقيد التاريخي المعاصر لهوية السوداني العربي المسلم في مصر. إذ أن السودانيين ليسوا فقط "أقلية" في مصر لهم علاقات هوية مع غيرهم من المهاجرين السودانيين، بل هم أشقاء مسلمين وعرب ومستعمرين سابقين من قبل البريطانيين في وادي النيل.
تشارك شماليوا السودان مع المصريين في عدة صفات متعلقة بالهوية "فوق القومية/ الوطنية". أول تلك الصفات هو الامتداد الجغرافي لوداي نهر النيل، ثم الأصول المشتركة (المدعاة) للحضارة الفرعونية علي جانبي الحدود المعاصرة. يشير تعبير (أشقاء وادي النيل) المحبب لدى المصريين إلى الأصول المشتركة من الدم والقرابة والمجتمع عند سكان وادي النيل. أما ثاني تلك الصفات، فعلى الرغم من أن الوجود التاريخي لهويات متنافسة (مثل الوطنية المصرية التي تمجد مصر قبل دخول العرب إليها) إلا أن المصريين والسودانيين يشتركون في تراث وثقافة وأصل عربي واحد. كان لدور جمال عبد الناصر في إنشاء جامعة الدول العربية (هذا ليس صحيحا بالطبع. المترجم) ولتأييد المصريين والسودانيين للقومية العربية دورا كبيرا في تغذية هوية عربية "فوق- قومية" مشتركة بين الشعبين.
ارتبط الشعبان السوداني الشمالي والمصري أيضا بهوية دينية مشتركة، منذ قيام دولة قبطية علي شاطئ النيل في الفترة البيزنطية، وانتشار الإسلام عن طريق التجارة والبعثات الدراسية وتكوين الروابط الدينية المشتركة. والإسلام – كدين عالمي- يدعوا للترابط بين المسلمين خلال إطار "فوق-وطني/ قومي"، إذ أن "دار الإسلام" لا تحدها حدود رغم ممارسات وتاريخ المسلمين عبر العصور في هذه البسيطة. وهنالك رابط معاصر يربط الشعب المصري بالسوداني وهو كفاح الوطنيين في البلدين ضد من استعمرهما معا: بريطانيا العظمي. لقد مثل "حزب الوفد" المصري (الداعي لوحدة وادي النيل) المقاومة المصرية للحكم الاستعماري مثلما مثلها في السودان "الحزب الاتحادي الديمقراطي"، وهما يناديان معا بالقومية العربية ويساندان حركات التحرر في أنحاء العالم المختلفة. تنافست هذه القوميات الوليدة على تأييد شعبي وادي النيل، مع بقاء الدولتين مستقلتين ومشاركتين كعضوين في جامعة الدول العربية، وتخطت بذلك حلم دولة موحدة لمصر والسودان. إضافة إلي لذلك فإن في السودان شعبا آخر له هوية ودين غير الهوية العربية الإسلامية. كان هذا سببا لبذر بذور الشقاق السياسي في البلاد الذي يعد إرثا خلفه الاستعمار. رغم ذلك فإن المصريين كانوا يرون أن بين السودان ومصر من الوشائج والعلائق "فوق-القومية/الوطنية" ما يكفي لطمس متطلبات المواطنة في البلدين واستقلالية كل بلد بمفرده. لقد عضدت مئات السنوات من الهجرة والتصاهر والتجاور والتقارب والتعليم والأخوة الدينية من الهوية المشتركة. ولعل أفضل مثال علي تأكيد مصر على دعوي "هوية وادي النيل" هو أن أصول حاكم مصر الأول (محمد نجيب) والثالث (أنور السادات) كانت خليطا من شمال السودان ومصر. وفي عام 1981 وقع الرئيس السوداني جعفر نميري والرئيس المصري أنور السادات اتفاقية التكامل بين البلدين، وهي الاتفاقية التي تناولت جوانب تتعلق بالتعليم والاقتصاد والتنقل بين القطرين، مع احتفاظ كل قطر باستقلاليته. تم كذلك إنشاء برلمان مشترك سمي "برلمان وادي النيل" لتعميق مفاهيم التكامل، وأعطي المصري في السودان، والسوداني في مصر حقوقا تشبه حقوق المواطن في بلده.
كان للسوداني الشمالي عدة أسباب ليستقر في مصر. أتي كثير من العمال السودانيين للعيش في مصر والارتباط بالمؤسسات المصرية. قابلت في مدينة أسوان المصرية "ميساء"، وهي امرأة تفيض بالحياة في السبعينات من عمرها. ولدت "ميساء" في مصر لوالدين كانا قد هاجرا لأسوان من "مروي" في شمال السودان في عشرينات القرن الماضي خلال فترة الاستعمار البريطاني المصري. كان الجيش البريطاني يجند السودانيين للعمل في صفوفه في كل المهن والرتب والتخصصات. فمثلا كان سلاح الهجانة الذي يحرس الحدود السودانية المصرية يتكون كله من السودانيين. تزوجت "مياسة" من ابن عمها السوداني الذي تخرج من الكلية الحربية وعمل ضابطا في الجيش المصري البريطاني. أثمر زواجهما عن أربعة أولاد عاشوا في أسوان ونال اثنان منهم الجنسية المصرية رغم أن "ميساء" وزوجها بقيا في مصر بعد استقلال السودان في 1956م واحتفظا بجنسيتهما السودانية. وظلت "ميساء" تنال معاش زوجها كضابط في الجيش المصري حتى بعد وافته في السبعينات.
لعبت مصر بعد استقلال السودان دورا هاما في احتضان السياسيين السودانيين المعارضين والمنفيين. من أهم هذه الشخصيات التجاني الطيب، أحد قادة الحزب الشيوعي والذي هرب إلي مصر في التسعينات. كان لأستاذ التجاني صلات شخصية وسياسية وثيقة بمصر عندما كان طالبا في الجامعة المصرية في الأربعينات، وكان عضوا في الحركة الشيوعية المصرية. في عام 1948م سجنت السلطات المصرية التجاني الطيب لمدة عام كامل بحجة أنه كان يمثل "خطورة" علي الأمن المصري، وتم ترحيله للسودان حيث أسس مع غيره الحزب الشيوعي السوداني. ظل التجاني نشطا في ذلك الحزب لعقود طويلة، ومع توالي الأحداث لجأ التجاني إلي القاهرة. وفي الواقع أن مصر وفرت في سنوات التسعينات مناخا مناسبا للمعارضة السياسية حيث كانت مقرا دائما لكثير من قادة الأحزاب السودانية.
(2)
التغيير الاجتماعي والالتزام بمعايير سلوكية وأخلاق عالية Social Change and Propriety لا يعني ما ذكرناه آنفاً أن المصريين والسودانيين لم يكونا يدركان مدى الفروقات بينهما، ولكني أزعم أن الشعبين ظلا يقاومان التفسير الذي يقول إن تلك الفروقات تأخذ شكل "الهوية العرقية". وظهر مثل هذا الفهم عندما بدأت في إشراك بعض الزملاء البحاثة السودانيين والمصريين في اهتماماتي البحثية. سجلت بعض الملاحظات التي وردت من بعض المصريين على موضوعي البحثي حول هوية السودانيين في مصر. فلقد قال بعضهم: "أنظر للأرمنيين في مصر. هم جماعة عرقية لأنهم يتحدثون لغة مختلفة ويدينون بديانة مختلفة وهكذا. سيكون من الخطأ الحديث عن السودانيين في مصر كجماعة عرقية مستقلة إذ أنهم لا يختلفون عن المصريين!"
بينما قال أحد السودانيين: "إن المشاكل موجودة فقط بين الحكومتين، وليس ثمة خلافات بين الأشقاء في وادي النيل. ستزول حتماً هذه السحابة العابرة".
رغم كل ذلك بدأ التوتر الناشئ بين الحكومتين المصرية والسودانية يظهر أثره السيئ على السودانيين في مصر، حيث أضيفت علي كاهلهم أعباء إضافية في أمور عديدة مثل إدخال أبنائهم للمدارس وتجديد الإقامات والالتحاق بدورات تدريبية والعثور على وظائف. وما أن شارف عقد التسعينات من العقد الماضي، حتى كان السودانيون في القاهرة قد آمنوا تماماً أن ثمة خطأ ما في الشعار الذي ينادي بوحدة الأشقاء في وادي النيل. وعمت موجة من الغضب العارم والغبن الشديد المواطن السوداني في مصر نتيجة لضغوط معاناته اليومية، والمعانات التي كان يتجرعها، ولفقدانه لحقوق قانونية مساوية لـ"شقيقه" المصري، وكذلك لتجاهل الحكومة المصرية لمطالبه واحتياجاته وغمطها لحقوقه .
أجمع دارسو علم الأجناس البشرية (الأنثربولوجيا) من زمن بعيد على أن المجموعات البشرية التي تتعرض لموجة تغيير وتجابه أزمة ما (وتحس بخطر محدق على رفاهيتها، أو حتى على وجودها) عادة ما يجدون ضالتهم في هوية جديدة، وقد يتضاعف شعورهم بالانتماء لهذه الهوية الجديدة لدرجة الإفراط. وهذا بالفعل ما حدث أثناء صراعات معلومة ومشهودة كان مصدرها "العرق" أو "القومية"، حيث تجد المجموعات البشرية التي كانت تصف نفسها بأنها كانت تعيش (أو تتعايش) مع جيرانها في أمن وأمان وأخوة نفسها فجأة في حالة صراع وحرب مع هؤلاء الجيران، فتتخذ من الأسباب والذرائع ما يبرر هذا الصراع والحرب. ويحضرنا هنا مثال حرب الهند والباكستان، ومثال دولة يوغسلافيا التي انقسمت لدويلات عرقية/ قومية مختلفة. وفي هذا الصدد نجد أن عالم "الأجناس البشرية" تون برنقا قام عقب حرب البلقان بتصوير شريط وثائقي عن العملية التي تفرق فيها "الكروات" و"المسلمون" في قرى كانوا يسكنونها معاً، حيث ذهب كل فريق منهم لقرى فيها جماعته، وانقلبوا من بعد ذلك إلى أعداء الداء بصورة عنيفة لم يتصورها أحد عند بداية الصراع. نجد في هذا الشريط الوثائقي بعض الأصدقاء من "الكروات" و"المسلمين" الذين كانوا يتناولون قهوة الصبح سوياً على مدى أربعة عقود طوال، يحاربون ويقتلون بعضهم بعضا. كل ذلك دليل أكيد على مدى قوة تأثير "الكرامة" و"العزة" و"الخوف" الذي يصاحب مشاعر الانتماء لهوية أو قومية ما.
كذلك وجد السودانيون في مصر مشاعر إيجابية نحو المجتمع المصري مختلطة بمشاعر نتجت عن شعورهم بالإقصاء والعزل. قضى بعض السودانيين (مثل السيدة/ "ليلى") أغلب سنوات حياتها بعد بلوغ سن الرشد في مصر، وتعد العديد من المصريين كخير أصحابها المقربين. أتت "ليلى" إلى مصر للدراسة الجامعية في جامعة القاهرة في الثمانينات، وعادت لبلادها بعد حصولها على درجتها الجامعية. بيد أنها آبت لمصر مجددا، ومع كامل أفراد أسرتها هذه المرة، بعد أن هاجر والدها الموظف الحكومي الكبير من السودان فراراً بآرائه السياسية المعارضة للحكومة، واستقر بهم المقام جميعاً في مصر. حصلت "ليلى" على وظيفة ممتازة مع منظمة "غير حكومية"، وكانت تسكن مع عائلتها في شقة مريحة، وتتمتع بصداقات متنوعة مع مصريين وسودانيين كثر. ييد أنها بدأت تحس بما يعانيه السودانيون – بصورة عامة - في مصر بعد عام 1995م، وأحست بأنه ما عاد ممكناً لها أن "تتوافق" مع المصريين. كانت تشتكي من أن الجيران صاروا أكثر وقاحة مع عائلتها، وبدأت تقتنع بأن المصريين "تغيروا"! وبعد وفاة والدتها هاجرت "ليلى" مع بعض أفراد أسرتها للعيش في كندا.
هنالك أيضاً قصة "حمدي"... التي توضح بجلاء أكثر قصة تحول "الوطن" إلى "قومية أجنبية". مثله مثل "ليلى" درس "حمدي" في جامعة القاهرة، وتزوَّج من فتاة مصرية نوبية. عاد "حمدي" مع زوجته النوبية للوطن، حيث حصل على وظيفة ممتازة في إحدى الوزارات. تم فصله من وظيفته في عام 1994م لأسباب سياسية، فلم يملك إلا أن عاد هو وزوجه إلى مصر مرة أخرى حيث حفيت قدماه وهو يبحث عن عمل يعيش من دخله، إذ أن المخدمين المصريين لم يكونوا على استعداد لتعيين سودانيين، إذ أن النظرة لهم الآن قد تغيرت، وصاروا "أجانب"، ولا يحق لهم منافسة المواطنين المصريين في فرص العمل المحدودة. فشل "حمدي" في حمل أصدقائه القدامى من المصريين على تسهيل أمر حصوله على الأوراق اللازمة لاستخراج "تصريح عمل" له. كذلك لم يجد "حمدي" في نفسه رغبة في العمل في "وظائف هامشية" لا تتناسب مع وضعه السابق كموظف حكومي كبير! واضطرت زوجته لإعالته والنفقة على نفسها وطفلها بالعمل كحنانة، وكانت تذهب من بيت لبيت تجر طفلها الصغير أينما ذهبت، بينما كان زوجها يقضي سحابة نهاره في المقاهي يتحدث في أمور السياسة ويقرأ الصحف اليومية، ويمضي ليله في بيوت الأثرياء من السودانيين حيث يغرق أحزانه المتراكمة، ويعود مع تباشير الفجر لزوجته الغاضبة الحانقة. فشل "حمدي" في الحصول على صفة "لاجئ" فلم يجد أمامه سوى اتخاذ الخطوة الجريئة والخطرة بالعودة للوطن.
لعل تجارب "ليلى" وحمدي في مصر وضيقهما بـ"الأخوة" المصرية ليست وقفاً عليهما، بل هي صفة ملازمة لكثير ممن قمت بالحصول على إفادتهم في بحثي، وتحمل كثير من المنظمات الثقافية والعرقية وغيرها ذات المشاعر، إذ أن هذه المنظمات ما أنشئت إلا استجابة لشعور السودانيين بالغبن والعزلة. رغم كل ما قيل فإن السودانيين – رغم مشاعر الإحباط والغضب مما يحدث لهم – وتعجبهم من مواصلة المصريين الحديث عن شعارات "الأشقاء" و"وحدة أبناء وادي النيل" رغم ما يفعلونه بهم، فإنهم لم يقوموا باتخاذ أي موقف عدائي واضح ضد مصر أو المصريين. لاحظت أن كثيراً من السودانيين الذين كانوا يساعدونني في بحثي كانوا لا يزيدون عن انتقاد سوء تعامل المصريين معهم، ووقاحة صبيتهم واستخفاف رجالهم بهم والمعاملة "الخشنة" التي كانوا يجدونها من نساءهم. بالطبع تندرج كل تلك التعليقات على مشاعر ذاتية تجاه "إخوتهم السابقين" ويصعب التحقق منها موضوعيا. تشمل تلك المشاعر الذاتية أشياء مثل عدم رد السلام بطريقة لائقة مع الجيران، وأن المصريين يتبادلون الشتائم على الملأ وهكذا. وررد بعض من سألتهم من السودانيين جملا مثل: "والله المصريين ديل ما مؤدبين"! وبدا لي هذا القول وكأنهم يبنون جداراً عازلاً حول هويتهم..
إن اختيار بعض السودانيين لبناء هذا النوع من الجدار العازل لهويتهم تمييزاً لهم عن المصريين (على اعتبار أنهم أوفر أدبا) أمر يدعو المرء للتأمل. لقد استدعت الجماعات العرقية المهاجرة المختلفة ما تعتقد أنه يميزها عن غيرها في جانب "التفوق الأخلاقي". معلوم أن المصريين والسودانيين (العرب المسلمين) يتشاركون في ذات القيم الأخلاقية، ويؤمنان بأن السلوك القويم للنساء والرجال يستمدان مصدرهما من قيم أصلية تستند إلى تعاليم الدين الإسلامي والعروبة التي تحض على فضائل التواضع والكرم والضيافة و الكرامة والمساواة الاجتماعية. تلك هي ذات القيم التي يؤمن بها العرب والمسلمون في مصر والبلدان الأخرى. إذن لم استعمل (بعض) السودانيين في مصر "الأدب" كعلامة فارقة تميزهم عن المصريين؟ إن نتائج بحثي تشير إلى أن التزام السودانيين بمعايير سلوكية وأخلاق عالية propriety كعلامة هوية مميزة تتيح لهم امكانية تحوير و"إعادة تفسير" قواعد السلوك بطريقة مرنة تبعد أو تقرب المصريين منهم حسب ما تمليه الظروف.
هوية ملتبسة:Ambiguous ethnicity
يمكننا أن نستخلص مما سبق أن السودانيين الشماليين في مصر في عقد التسعينات سلكوا -باختيارهم- مدخلا مرنا وملتبسا لتثبيت هوية جماعتهم. ولهذه الغاية يستدعون كل خصائص السلوك العربي الإسلامي، والتي يتشاركون فيها مع المصريين. وبهذا فإنهم يجدون طرقاً دقيقة وغير ملحوظة لتمييز أنفسهم عن المصريين، مع المحافظة في ذات الوقت على مظهر خارجي يؤكد التضامن والتوحد معهم. لقد تعرضت في كتابي للطرق والوسائل التي سلكها رجال ونساء السودانيين المهاجرين في مصر لتثبيت دعائم "تفردهم" بطرق محددة، معتمدين على خاصية "الأدب"، مع الأخذ في الاعتبار سطوة الدولة المصرية.
يبقي السؤال قائما: هل يعد السودانيون في مصر مهاجرين أم لا؟ الإجابة كما هو متوقع هي نعم ولا. إن كثيراً من السودانيين الذين يسافرون ويعودون من مصر بصورة متكررة بغرض العلاج أو التعليم أو السياحة أو العمل لا يعدون أنفسهم "مهاجرين"، بيد أن كثير من الساسة السودانيين المعارضين سعوا للحصول على وضع مختلف. في نهاية أعوام التسعينات نجحت منظمة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة مصر والمجتمع الدولي بالموافقة على منح السودانيين الشماليين الحماية وصفة "لاجئين سياسيين" للذين تنطبق عليه الشروط المعلومة. رفضت مصر العودة الكاملة للوضع القديم الذي يعد السوداني "شبه مواطن". عرض على كثير من هؤلاء المهاجرين إعادة التوطين في دولة ثالثة مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا.
عاد أمر "التكامل" بين الشعبين في عام 2005م إلى الواجهة عقب فض الشرطة المصرية المسلحة لاعتصام سلمي استمر لثلاثة أشهر قام به بعض المهاجرين السودانيين في ميدان عام أمام مكاتب منظمة اللاجئين في وسط القاهرة، وحامت شكوك قوية حول إمكانية تنفيذ اتفاق "الحريات الأربعة" والتي وقعها الرئيسان حسني مبارك وعمر البشير، خاصة عند أولئك الذين لا يشعرون بأن المصريين يرغبون في إقامة علاقة "أخوية" معهم. كان هؤلاء يشعرون بأن اتفاق الحريات الأربعة (التنقل والعمل والإقامة والتملك) للمصريين في السودان وللسودانيين في مصر لا تخصهم في كثير أو قليل، وأنهم سيظلون "معزولين" في مصر، ويخسرون كذلك فرصة إعادة التوطين في بلد ثالث.
ما أن خرج "جني" اللجوء من قمقمه، حتي تزايد زهد قطاع كبير من السودانيين في مصر في التكامل الرسمي بين القطرين "الشقيقين".