Saturday, May 12, 2012

حول ترميم الأسنان عند شباب جنوب السودان


نشرت قبل عام أو يزيد مقالا بعنوان "اقتلاع الأسنان في جنوب السودان (و استعادتها بعد سنين في العالم الجديد) عن ما قام به فريق طبي من كلية طب الأسنان في لنكن (عاصمة ولاية نبراسكا) بالاشتراك مع عالمة الأنثربلوجيا الطبية ماري ويليس من برنامج "إصلاحي" لتركيب أسنان صناعية لشباب من جنوب السودانيين من المهاجرين الذين لجئوا لحمي ذلك الصقع الناعس البارد هربا من أتون حرب استعرت ثم خمدت ثم استعر أوراها إلي أن خمد – ربما للمرة الأخيرة- باتفاقية نيفاشا (حيث قبر سالم بيه مطر، ذلك الضابط القديم الذي كتبنا عنه مؤخرا). و لن أتخطي لنكن قبل أن اعرفها هنا للقارئ، فهي مدينة صغيرة بيضاء التوجه و السكان تتوسط خريطة الولايات المتحدة تماما و يسخر منها سكان المدن الضخام مثل نيويورك، و محظوظي الحواضر المشرقة مثل مونتيري! اختيرت لنكن – لسبب يعلمه الله- قبل عقود كمأوي لمن عرفوا ب"أناس القوارب Boat people" في أواخر سبعينات القرن الماضي، و هم سكان جنوب فيتنام الذين هربوا عقب سقوط حكومتها الموالية للغرب علي يد الشيوعيين، و هاموا علي أوجههم في قوارب ظلت تجوب البحار حتى تم توزيع ركابها علي بلاد غربية منها أمريكا، فكانت لنكن هي موطنهم البديل ... ثم تقاطر علي تلك المدينة أهل العراق ممن شردتهم حرب الخليج أوائل التسعينات، و بلغ من كثرتهم أن صار في المدينة الصغيرة مسجدان منفصلان للشيعة و السنة يفصل بينهما سبعين شارعا...ثم تقاطر شباب السودان خاصة من الجنوب بسبب ما تعلمون. إذن هي مدينة مهاجرين. و كانت تلك فرصة ذهبية للأكاديميين فيها لإجراء أبحاث كثيرة حول الوافدين الجدد... طعامهم و شرابهم و دقة (أو اكتناز) عظامهم وعاداتهم تليدها و طريفها، و من ذلك عادة اقتلاع الأسنان عند سن البلوغ عند بعضهم مثل الدينكا و النوير و غيرهم من القبائل الإفريقية. قال لي أحد شباب المدينة الأبيض ساخرا و هو ينظر في تجمع ما للمهاجرين في المدينة: "إن أردت أن تعلم من حاربته أمريكا فأنظر للمهاجرين في لنكن"!
تلك هي المدينة التي أجري فيها هذا البحث (و الممول من قبل هيئة إسمها جايكوب و فاليريا لانقلوث Jacob and Valeria Langeloth Foundation  و نشر في مجلة طب الأسنان البريطانية العدد 204 في عام 2008)  الذي سألخص بإيجاز بعض جوانبه هنا و هو استعراض لبعض حالات لبعض الشباب من الدينكا و النوير ممن اقتلعت أسنانهم (كعلامة علي مبلغهم سن البلوغ و لأسباب أخر).
تقول الباحثة و زملائها أن عادة اقتلاع الأسنان عند شعوب أفريقيا جنوب الصحراء عادة تقليدية ظلت تمارس منذ  أكثر من ألف و خمسمائة عام أو تزيد، بيد أنها عادة لم تجد حظها و ما تستحق من بحث و تمحيص إلا عندما قدم رجال من الدينكا و النوير للولايات المتحدة و عرضوا أنفسهم علي أطباء الأسنان طالبين استبدال ما اقتلع من أسنانهم عند سن البلوغ. في هذا البحث استعرضت الدكتورة ويليس حالات ستة و ثلاثين مهاجرا سودانيا احتاجت عملية استبدال أسنانهم المقتلعة لمائتي و ثمانية و ثلاثين إجراءا طبيا، و تعرضت لبعض ذكريات هؤلاء الشباب عما تعرضوا له أثناء و بعد الإقتلاع. و يبدوا أن أطفال أهل الشمال و الجنوب في بلادنا أبوا إلا أن يتقاسموا الشقاء في عادتين خبيثتين، فأختص أهل الشمال بعادة خفض الإناث، بينما أبتلي أهل الجنوب بعادة اقتلاع أسنان الذكور عند تخطيهم لعتبة البلوغ.
لم يجد كل من بحث في السر الذي ظل يدفع الأفارقة جنوب الصحراء لاقتلاع أسنان شبابهم أي سبب "معقول" يفسر تلك العادة، بيد أن بعض الباحثين يعتقد أن الأمر يرتبط بارتفاع نسبة حدوث مرض التتنوس (الكزاز) وسط أولئك الأفارقة من قديم و ما يحدثه المرض من "إغلاق للحنك" يمنع المرء من تناول الطعام (السميك)! وليس هذا التفسير مما يدخل الدماغ! يعتقد بحاث آخرون أن تلك العادة تمارس و ترتبط بصورة من الصور بطلب الجمال ( و معاييره تختلف من منطقة لأخرى و من شعب لآخر)، و بالطعام اللين، أو بإعلان دخول الشاب لمرحلة البلوغ أو لتمييزه من بين القبائل الأخري أو لجعله يتمكن من إصدار أصواتا بعينها. و علي مدي عقود فلقد ثبت أن هنالك تسعة مجموعات ثقافية (أو قل قبائل) في جنوب السودان تمارس تلك العادة و تتمايز كل مجموعة ثقافية بنظام خلع لأسنان بعينها يميزها عن المجموعات الأخري. فعلي سبيل المثال تقوم القبائل النيلية من الرحل باقتلاع أثنين إلي ثمانية من القواطع و/ أو الأنياب. و كان الاعتقاد التاريخي السائد هو أن هذه ممارسة ذكورية خالصة، بيد أن أبحاث الدكتورة ويليس أثبتت أن بعض الإناث قد تعرضن أيضا لعملية اقتلاع الأسنان عند البلوغ، و أثبتت أيضا أن النوير لا يكتفون باقتلاع القواطع الفكية فقط بل يزيدون عليها الأنياب الفكية أيضا.
الجدير بالذكر أن الحركة الشعبية لتحرير السودان كانت قد أصدرت في أواخر عام 1986 أو بدايات عام 1987 أمرا بحظر اقتلاع الأسنان منعا للتمييز القبلي و لتقليل فرص استهداف بعض القبائل والتي يتميز أفرادها بترتيب وعدد الأسنان المقتلعة. رغم كل ذلك فلا يزال الاعتقاد سائدا أن بعض القبائل (خاصة في الأماكن النائية) ما زالت تمارس تلك العادة. 
أنكر كل من تم سؤاله من المهاجرين الدينكا أو النوير عن هذه العادة أنها لا تزال تمارس في أيامنا هذه، و صرحوا بأنهم لن يقوموا بتكرار ما "جناه" عليهم آبائهم في أبنائهم المقيمين في أمريكا الآن (و هذا بالطبع من نافلة القول، فممارسة كهذا في الغرب قد تضع الأب بين القضبان لسنين متطاولة).
سجلت الكاتبة حالات شاب دينكاوي و شابين من النوير كما يلي:
1. الحالة الأولي: هذه حالة رجل من النوير( 34 عاما) ذكر أنه اقتلعت بعض أسنانه في ذات اليوم الذي اقتلعت فيه أيضا اسنان أربعة من الصبية من اصحابه. فقد كل منهم نصف دستة من القواطع و الأنياب. قام بالعملية – و دون توقع أو تلقي أي أجر-  رجل مهاب في القبيلة يدعونه "ناك" (ذكرني بالطهار في قري الشمال). يستلقي الطفل علي ظهره بينما يقوم رجال أشداء بالقبض بقوة علي يديه و رجليه، ثم ينحني "الناك" و يضع رأس الطفل بين ركبتيه و بينما يضع يده تحت ذقن الطفل و يقوم بجذب فم الطفل للأعلى و الأسفل، و يستخدم يده الأخري ليدخل آلة تشبه السكين الصغيرة بين قواطع الطفل الأمامية، و يحركها يمنة و يسرة ليخلخل السن و يخلعها بسرعة بإدخال الآلة في اتجاه اللسان بعيدا عن اللثة. يقول الرجل أن العملية تتم دوت تخدير و "بسرعة فائقة" بيد أنه لم يستطع تحديد مدة العملية علي وجه الدقة. يتذكر الرجل أن الطفل لم يكن ليبكي و لا يدمع و لا يصرخ أبدا من ألم اقتلاع أسنانه إذ أن كل ذلك قد يقدح في سمعة الصبي! يترك الجرح كما هو و لا يعطي الصبي غير لبن ساخن للشرب.  لا يزال الرجل يذكر جيدا الصداع و الألم الممض الذي صاحب تلك العملية، و الذي استمر لأسبوعين تم بعدها برء الجرح و لم يعد يحس شيئا.
بعد مرور شهرين علي وصوله الولايات المتحدة في 2001، طالب ذلك الرجل النويري بعمل اسنان صناعية يستعيد بها ما فقده من أسنان قبل عقدين من الزمان. كان الناس يسألونه دوما عما إذا كان قد ولد من غير اسنان،و كان من رأيه أن الأسنان "الكاملة" تعطي الناس في أمريكا منظرا يوحي بتمام الصحة. حاول أن يتخذ له اسنانا صناعية جزئية بيد أنها لم تساعده علي تناول الطعام السميك.  
2. الحالة الثانية: هي حالة شاب دينكاوي (23 عاما) من منطقة بور اقتلعت له أسنانه الفكية الأمامية مع ثلاثة من أقرانه. قدر أن عمره حينها لم يكن يتجاوز السابعة. شعر بالفخر بعد عملية خلع اسنانه إذ أنه – و هو علي أول عتبات الرجولة-  لم يبك أو يصرخ من الألم و بذا نجا من مداعبات اقرانه الساخرة إن كان قد ادمع أو تأوه، بل لم تكن هنالك حاجة حتي لمسكه و "تثبيت" يديه و ارجله (تماما كما هو الحال مع "اولاد الطهارة" قبل ظهور التخدير!)، بل ظل جالسا في هدوء و رأسه بين ركبتي مقتلع الأسنان (raan de hoth). كانت الآلة التي اقتلعت بها أسنان ذلك الصبي عبارة عن حربة صغيرة في حجم الأصبع، و كان العمليه تشابه ما ذكرناه في الحالة الأولي. أمر الطفل بعد الخلع بغسل فمه لعدة مرات بماء حار و بإستعمال لسانه لغسل الجرح و أعطي من بعد ذلك لبنا مغليا. و كما هو الحال مع الحالة الأولي فلقد طالب الشاب الدينكاوي بعد وصوله مباشرة في 2001 بأسنان تعويضية. و كان الأمر في حالته صعبا جدا إذ أنه كان قد فقد احد اسنانه و هو يلعب كرة القديم في كاكوما في كينيا، و تم خلع أحد أضراسه في أمريكا بسبب مرض مزمن فيه.       
3. الحالة الثالثة: أجريت لهذا الرجل النويراوي (40 عاما) عمليتي اقتلاع لأسنانه فصل بينهما عام واحد. فلقد اسأ و هو طفل الأدب فهدداه والده بإستدعاء مقتلع الأسنان، فأرعوي. بيد أن والدته فاجأته – من غير إنذار- بإحضار مقتلع الأسنان (ناك) لخلع اربعة من قواطعه الأمامية. كان الطفل الوحيد الذي اقتلعت اسنانه ذلك اليوم، و امسك به يومها ثلاثة رجال اشداء و هو مستلق علي الأرض. بكي الطفل لساعة كاملة بينما كان الرجال ينظرون اليه في صمت مثلج. قدموا له بعد أن صمت ماءا ساخنا و لبنا تم غليه علي نار الحطب. بعد  شهور أعيدت الكرة و اقتلعت له هذه المرة أنيابه مع بعض أبناء عمه. لم يخف سعادته بعد اقتلاع اسنانه إذ صار بمقدوره الحديث مع من يكبرونه سنا و مع أي فتاة يشاء. لقد دلف بفخر إلي عالم الكبار البالغين! 
طالب الرجل – مثله مثل غيره- بتعويض اسنانه مع مطلع قدومة لأمريكا في عام 1998، بيد أن تكاليف العملية التجميلية كانت مرتفعة جدا و لم يرض بتركيب أسنان صناعية لأنه كان يظن أنها قد تسقط من فيه. و عند قبول مشروع هذا البحث تم إدخاله في برنامج التقويم التجميلي، و ينعم الرجل الآن بأسنان كاملة تضاهي في جمالها المعايير الجمالية الأميريكية (و الغربية علي وجه العموم).
ختمت دكتورة ويليس بحثها بملاحظات عامة منها ما ذكرته من إشادة الذين اقتلعت اسنانهم بمهارة و سرعة "مقتلعي الأسنان" في إنجازهم لعملياتهم في اقتلاع الأسنان الدائمة فور بروزها دون تخدير أو تطهير أو تعقيم أو وسائل تشخيص كالأشعة السينية.  ذكر أحد المرضي من الدينكا أن العلاج التقليدي للإسهال (لعله يقصد الإسهال المصاحب لبروز أسنان الطفل) عندهم و عند قبائل كثيرة في جنوب و شرق افريقيا يشمل في بعض الأحايين قطع جزء من نسيج اللثة بغرض "تنفيس" التورم و تسهيل عملية بروز الأسنان. شملت وسائل العناية التي تعقب العملية التي يجريها مقتلع السنان استعمال اللبن أو الماء المغلي أو الحار و استعمال مسواك الأراك و (عند الدينكا و النوير) استعمال رماد روث الأبقار المحروق كمعجون للأسنان، و يؤمنون بأن هذا الرماد مبيض للأسنان و مزيل لبقايا الطعام بين الأسنان، بينما أثبتت بعض الدراسات أن لشجرة الأراك تأثيرا مفيدا ضد أمراض اللثة و الأسنان.
ساهمت عملية استعادة الأسنان المقتلعة في تعليم الوافدين الجدد عادات و تقاليد وثقافة مجتمعهم الجديد و هو ما يعرف بال enculturation و رأي المشتركون في هذا البرنامجي التقويمي أنه قد افلح في جعل امر توطينهم أكثر يسرا، و جعلهم أناسا "عاديين" في مجتمعهم الجديد من حيث القدرة علي الأكل و الكلام و في مظهرهم العام كذلك.

No comments:

Post a Comment