الخروج من أمدرمان
Omdurman: Flight of a Demi-God
تأليف : فييلب زيقلر Philip Ziegler
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
To arrive at a just estimate of a renowned man's character one must judge it by the standards of his time, not ours. MARK TWAIN
Patriotism ruins history. GOETHE
مقدمة: السطور التالية هى تعريب لفصل فى كتاب فييلب زيقلر "أم درمان" و الذى صدر فى نيويورك عام 1974م عن دار .Alfred Knope و الفصل بعنوان "هروب نصف إله" Flight of a Demi-God, و ترجمتها إلى "الخروج من أمدرمان”. و هذا الفصل يصف المعركة الغريبة والحاسمة التي قادها البريطانيون(حسب زعم المؤلف) انتقاماً لمقتل غردون فى الخرطوم. والكاتب – بطبيعة الحال – يكتب بلسان وعقل وعاطفة المستعمر ويعكس وجهة نظر قد يعارضها – كلياً أو جزئياً – كثير من الناس. ويروي المؤلف هنا قصة "هروب" الخليفة مع بعض التفاصيل الأخرى.
...............
إنقضت إلى الآن نحو أربع ساعات منذ أن غادر الخليفة ساحة المعركة، وكان أول عمل قام به هو التوجه نحو قبة المهدى للصلاة. أكانت الصلاة طلباً للهداية والرشد أم رغبة فى الاستغفار وطلب الصفح؟ من يدرى؟ من بمقدوره معرفة ما دار بخلد الرجل وهو يرى – رأى العين- كل ما بناه وعاش من أجله يتهاوى أمام ناظريه... صرف الخليفة من كان معه من أفراد عائلته أسرته، وتخلص من غالب متاعه، وأمر بزوجاته فرحلوا فى موكب متجهين جنوباً. إنصرف الخليفة بكلياته نحو تركيز الجهود لمعركته الدامية المقبلة. وقف في مصلاه و أصدر أوامره بضرب الطبول و"دق النحاس" ليتجمع حوله المحاربون، وانتظر بصبر المؤمن الصادق التآم شمل مناصريه. جال بخاطره أن الموت فى انتظاره؛ وزاده ذلك تصميماً على أنه إذا لم يكن من الموت بد فإنه - على الاقل- لن يموت إلا بشرف وسط أتباعه وحوله جثث الكفار وأشلاؤهم.
مرت نصف ساعة قبل أن يقنع نفسه بأن أنصاره قد انفضوا من حوله وأن أتباعه قد هجروه. تسلل بعضهم هربا من ساحة الوغى ورمقوه بأعين اختلط فيها الخجل بخيبة الأمل... زحفوا عائدين من حيث أتوا، بينما وجد بعضهم فى نفسه الشجاعة ليصيح فى وجه الخليفة متسائلاً:" لماذا لا تجلس على فروة صلاتك تنتظر الموت الآتي؟"... والجلوس على فروة الصلاة عند قادة العرب رمز للاستسلام و الرضاء بقدر الموت الآتي. أصاب الإحباط الخليفة فاستدعى أبا القاسم سكرتيره الخاص وسأله النصح عما يمكن الآن فعله، فأجابه أبو القاسم ساخراً أن عليه مواصلة الصلاة وسينصره الله دون ريب. لم تقع تلك الإجابة موقعا حسنا عند الخليفة، فأمر أبا القاسم بالذهاب لقصره وجلب من يجده هنالك من أفراد أسرته. أظهر أبو القاسم الطاعة، و لكنه ذهب ولم يعد! وبقي حول الخليفة قليل من أنصاره الأوفياء المخلصين. قام بإرسال أثنين منهم للاستطلاع ومعرفة مدى تقدم الجيش الغازي المتجه نحو المدينة. لم يستغرق الأمر إلا نحوا من عشر دقائق عاد بعدها الرسولان ليبلغا سيدهما أنهما شاهدا جنود القائد الإنجليزى (إسميث دورين) وهم يتقدمون نحو بيت المال. كان واضحا أنه لن تنقضي دقائق يسيرة حتى يكون جنود العدو على مقربة من قصر الخليفة. كانت تلك هى لحظات الحسم. أيبقى الرجل ويقتل مع حفنة من حراسه فى معركة خاسرة، أم ينسحب (فى الأصل: يهرب) و يحيا ليقاتل في يوم آخر؟ تلزم أعراف الحرب عند العرب القائد بالصمود فى موقعه ولقاء الموت، بيد أن الخليفة لم يكن قد أفلح في الحفاظ على حكمه لسنين (رغم ما واجهه) بالالتفات إلى "أعراف العرب". أعمل فكره على عجل وأمر بعض حراسه بمقاومة طلائع جنود الفتح ريثما يكسب دقائق قليلة ثمينة، بدل خلالها الخليفة ملابسه وانسل خارجا عبر ممر سري فى القصر. عندما بدأ الجنود السودانيون فى جيش الغزو (الفرقة 13) يمطرون بوابة القصر الرئيسة بنيران أسلحتهم ويقتحمونها، كان الخليفة قد انسحب بسلام وهو على صهوة حصانه (مع نفر قليل من أتباعه الأوفياء) ينهب الأرض نهباً بحثا عن فلول جيشه المهزوم.
تقدم رجال إسميث دورين نحو مقبرة المهدي، وكانت تقع فى نهاية طريق ضيق أمام بوابة القصر. إذا كانت هنالك لحظة "لقاء أخير" فلقد كانت تلك بالقطع هى اللحظة. وقف خلف السردار كتشنر الجنود السودانيون. بدأت فى تلك اللحظة حركة مقاومة غير فعالة، إذ ظهر فجأة إثنان من فرسان البقارة على ظهر جواديهما من بين الظلال وانتصبا أمام البوابة، وباغتا الجنود الغزاة بهجوم إنتحاري. أصاب أحد الفارسين جندياً من جنود الغزو بحربة عرضها نحو 15 بوصة، أزالت رأس الجندي عن جسده كما يزال أعلى البيضة، وقتل عريف قبل أن تملأ رصاصات الجيش الغازي جسدي الفارسين. حدث كل ذلك فى ما لا يزيد عن دقيقتين أو ثلاث، بيد أن تلك الدقائق كانت كافية للخليفة كي يمضي قدما فى طريقه بعيداً عن القصر. لم يتسن للغزاة غير رؤية الغبار الذى أثارته حوافر خيول موكب الخليفة الهارب.
هجرت أمدرمان جموع وقوافل من الدراويش، ومن الشباب والعجائز والنساء اللواتي كن يحملن ما تيسر من متاع بائس قليل متجهين جنوبا. كان الخليفة من بين أولئك الفارين، وكان من المتعذر التعرف عليه وسط تلك الجموع. وقف الضابط "بيتي" على أعلى الباخرة "المتمة" وحلق بناظريه على المباني المتناثرة من تحته. كان مأمورا باطلاق النار على تلك الجموع الفارة، ومضى ينفذ الأمر دون كبير حماس. قال في نفسه: "أولم تكن مذبحة اليوم كافية؟" أطلقت مدافع المكسيم نيرانها "لتنظيف" الطريق القادم من النهر... ولكن عثر الفارون – بذكاء وحنكة- على طرق ملتوية لتفادي دائرة النيران. ومع مرور الوقت كان الخليفة يبتعد أكثر وأكثر عن عدوه الذي لم يكن يبغ غير رأسه.
تقدمت فرق العدو – وعلى رأسها ماكسويل - إلى المساحة الخالية بين مقبرة المهدي وقصر الخليفة. كان حال مدينة من أعظم مدن أفريقيا آنذاك مدعاة للحسرة والأسف والسخرية. لم يجد الغزاة غير تكلا (جمع كلمة "تكل" وهو المطبخ) بائسة من القش وبعض عصي ملتوية وقطاطي صغيرة يستطيع المرء بالكاد الدخول فى إحداها، وأشياء أخر لا تدل إلا على بؤس شديد وفقر مدقع.
بدا أن كل شئ هاديء وساكن في المكان إلا حين عثر الجنود على ثلاث من الأسود الجائعة موثوقة الرباط بقرب دار الخليفة. وبدأ زئيرها الغاضب المرعب يشق الصمت القلق. ثم أطل فجأة رجل من أحد القطاطي وتقدم بحذر شديد نحو الفاتحين. وما أن أدرك آخرون معه أنه لم يصب بنيران العدو حتى ظهروا من كل الفجاج وتكاثرت أعدادهم فبلغت مئات كثيرة. كان بعضهم ما زال يحمل سلاحه. كان أولئك هم حراس الخليفة الذين عصوه وانفضوا من حوله فى ساعة (وساحة) محنته...و حان الآن أوان استسلامهم للمنتصرين.
لم تكن شروط الاستسلام واضحة بينة. ومرت على الجنود المصريين والبريطانيين لحظات عصبية إذ كان المستسلمون من جنود الخليفة يفوقونهم عددا. صاح فيهم أحد الضباط آمرا إياهم بلسان عربى مبين أن ألقوا أسلحتكم. مرت لحظات ظن فيها الغزاة أن الدراوبش لن يفعلوا ما أومروا به. وفجأة انطلقت رصاصة مجهولة الهوية وانطلق معها- كالسهم- شخص من خلف زاوية فى مكان ما واختفى في الظلام. أصابت الرصاصة أحد الجنود السودانيين فى جيش الغزو فوقع ميتاً. كان يمكن لتلكم الحادثة أن تحدث مجزرة رهيبة، بيد أنها – و للغرابة- أدت إلى استسلام فورى. يبدو أن الدراويش قد خافوا من مغبة انتقام جيش الغزاة لجنديهم الذي قتل فآثروا الاستسلام وألقوا بأسلحتهم على الأرض؛ وشكلت تلك الأسلحة الملقاة تلاً كبيراً. أمر ماكسويل بالمستسلمين من الدراويش فأسروا وذهب بهم بعيدا. ولم تمر على تلك اللحظات سوى ثمانية وأربعين ساعة حتى تم تعيين ذات الرجال كجنود في جيش الخديوي المصري!
بقيت الفرقة السودانية (13) بقرب مقبرة المهدي نحوا من ربع الساعة انتظارا لوصول السردار ومعرفة أوامره. لم يبدد ملل تلك الدقائق إلا أصوات دجاج الخليفة والذي راح – في استخفاف بين بالغزاة- يبحث في خشاش الأرض بحثاً عن طعامه. استحال كثير من ذلك الدجاج إلى طعام شهى للجنود في تلك الليلة. وفجأة ظهر على بوابة القصر ذلك الحصان الأبيض الشهير وصاحبه الأشهر. دلف السردار ببطء إلى وسط المكان وخلفه الحراس. كانت راية الخليفة السوداء ما زالت ترفرف عالية فوق رأسه. كلف وجود ذلك الرمز الهام للخليفة الغزاة غالياً. كانت أوامر السردار للفرقة 32 مدفعية تقضي بأن تفتح نيران مدافعها على كل أثر يدل على الخليفة. أخذ جنود تلك الفرقة وجود علم الخليفة الأسود وهو يرفرف على قبة المهدي كدليل على وجود الخليفة فى المكان. لذا لقد بدأوا فى إمطار القبة والعلم الذى يرفرف فوقها بوابل من نيرانهم. تخطت قذائف المدفعية رأس السردار بأقدام قليلة، وهبطت على رؤوس رهط من الجنود السودانيين فقتلت وجرحت منهم العشرات.
مرت لحظات عصيبة لم يتبين لأحد فيها مصدر النيران الحامية. وتوالى انهمار القذائف. قفز الجنرال هنتر من على ظهر جواده والتقط بعضا من شظايا قذيفة, و بصوته الجهورى المميز خاطب قائده كتشنر قائلا: "معذرة يا سيدى ولكن يبدو أن هذه هى قذائفنا نحن" وجم كتشنر للحظات ثم قال: "حسناً يا سادتي الأجلاء.... لا أدرى كيف سنوقف هذا الهجوم. سيكون من المؤسف أن نخسر الموقف بعد انتصار اليوم الساحق. يجب أن نعطيهم ذلك الشرف". تحرك بحصانه نحو البوابة يتبعه ضباطه فى عجلة تعوزها الكرامة، وتم إخلاء المكان وسرعان ما حطت بذات المكان الذى كانوا يقفون عليه قذيفة تلتها أخريات. أزالت شظية أذن حصان فرانك سكودمور مراسل صحيفة الديلى نيوز بينما أصابت شظية أخرى هربرت هوارد مراسل التايمز فى مقتل. كان هوارد من هواة المغامرة يسعى لها ويلاحقها حتى لقي حتفه في إحداها. شهد معركة كررى ولم يصب فيها بخدش بيد أنه لقي حتفه فى تلك الحادثة الغبية.
قام عازف البوق (الترمبيطة) بعزف "وقف إطلاق النار Cease Fire " من على سطح مبنى قريب لقبة المهدي في محاولة متأخرة لإخماد غضب نيران فرقة المدفعية 32. تقدم كتشنر على ظهر حصانه نحو سجن الخليفة. كان تشرشل قد وصف ذلك السجن بأنه "عرين متعفن مظلم". كان بالفعل متعفناً بيد أن حالة كونه مظلماً كان مما يحبه السجناء لانعدام أى نوع من الظل فى ذلك السجن. كان سور السجن طينياً رقيقاً لم يكن ليحول دون هروب السجناء، ولكن كان هؤلاء المساجين التعساء مقيدين بسلاسل حديدية مؤلمة وثقيلة تحد من الحركة بل وتمنعها تماماً. وعلى مرأى من المساجين علقت المشانق على رؤوس الأشجار. كان هناك جسد يتدلى من أحد تلك المشانق...و كان هذا مشهد يومي مألوف القصد منه ردع من تسول له نفسه مجرد التفكير فى التحدي ومحاولة الهرب.
كان كتشنر يعلم أن التاجر الألماني شارلس نيوفلد كان من بين مساجين الخليفة فى أم درمان لمدة جاوزت أحدى عشر عاماً، لكنه لم يكن متأكدا من أنه ما زال على قيد الحياة ومن من الآخرين كان مسجونا معه. ظن كتشنر أن الخليفة – وكعمل انتقامي- قد يقوم بقتل المحبوسين فى سجنه. أكد إدريس مسئول الشنق (عشماوى الخليفة) أن الأوامر كانت قد صدرت إليه بذلك، بيد أنه أكد أنه وبداعي الإنسانية (كما أقسم هو للسجناء المحررين) أو بداعي المصالح الذاتية (كما يعتقد السجناء) لم يفعل ما أمر به بل ظل يسوف ويماطل في تنفيذ أوامر الشنق لسبب أو لآخر حتى ظهر الكفار على الباب. حينها اقتنع الرجل بأن الوقت قد فات لعمل أى شيء قد يثير غضب أسياده الجدد, فأسرع الخطا نحو المكان الذى كان نيوفلد مسجونا فيه. كان مقيدا بالسلاسل الثقيلة و كانت أحدى قيوده الحديدية تزن أربعة عشر رطلا. أصابت نيوفلد الفرحة لدرجة الهستريا عندما أخبره إدريس بأن إخوانه الإنجليز يملأون القصر وأن رجلا طويلا ضخما يسأل عنه. وبمعاونة اثنين من الحراس قام نيوفلد متعثرا نحو البوابة وهو ينتحب بشدة. سمع من على البعد صوتا مبحوحا يناديه: "هل أنت نيوفلد؟ هل أنت بخير؟" قام كتشنر و أطبق على يد الرجل محييا. كان صوته هامسا بيد أن مشاعره كانت بالغة العمق: " ظللت لثلاث عشرة سنة أترقب مثل هذه اللحظة".
وأمر السردار بفك قيوده ففكت، وربت على كتفه قائلا: " نيوفلد....أذهب فأنت حر طليق. سأذهب أنا الآن". و أتى من بعده رتل من المساجين الأوربيين من بينهم سستر تريسا جريوجولين والتى اعتقلت مع الأب أوروولدر من قبل سنين سبع، وجوزيف رجونين و والعديد من التجار اليونانيين. كانوا جميعا جائعين وخائفين ولكن أحدا منهم لم يكن مقيدا بسلاسل كنيوفلد، إذ أنه كان قد أتهم قبل حين بمحاولة الهرب من سجن الخليفة. وضع نيوفلد على ظهر حصان وسيق لميز (mess) القيادة شمال المدينة حيث شارك الضباط العشاء الإحتفالي والمكون من البسكويت والماء مع قليل من كسرة السجن (و التى جلبها نيوفلد معه لإضافة بعض التجديد فى قائمة طعام العسكر).
و فى ذلك الأثناء دخل سلاطين وماكسويل ومجموعة من الجنود السودانيين إلى قصر الخليفة وطافوا بغرفه وغرف حريمه وكانت كلها خاوية على عروشها. كان الخليفة فى ذلك الأثناء فى عرض الصحراء فى طريقه لنقطة معدة سلفا للقاء مجموعة تنتظره على ظهور إبلها. كانت تلك ضربة موجعة لسلاطين، إذ كانت أحدى المهمات الموكلة له هى ضمان عدم هروب الخليفة. وكانت تتملكه غريزة الانتقام الشخصي. كان يطوف بين الغرف فى عصبية واضحة بحثا عن غريمه اللدود وهو يردد و والغيظ يتملكه: " لقد فقدت أثره...لقد فقدت أثره!"
صار البحث عن الخليفة هو الشغل الشاغل للجيش الإنجليزى المصري. كان من المقرر أن تقوم فرقة الخيالة 21 بتعقب الخليفة، بيد أن تلك "النيران الصديقة" التى أصابتهم فى ذلك اليوم قد جعلت السردار يقرر عدم مشاركتهم فى العملية. ترك أمر تعقب الخليفة إلى بروود وود وفرسان الجيش المصري. كان الضابط "هيج" قد سار بجنده نحو خور شمبات وهم في غاية الإنهاك. كانوا يمنون أنفسهم بالنوم والراحة فإذا بسلاطين يأتيهم مسرعا على صهوة جواده فى حوالي السابعة مساء لينقل إاليهم أمر السردار بمواصلة المسير تعقبا للخليفة الهارب. ما أن مرت عشر دقائق حتى كان بروود وود قد استأجر خبيرين من قبيلة الكبابيش ليدلاه على طرق الصحراء. كانت مهمة الفرقة مقضي عليها بالفشل من قبل أن تبدأ، إذ لم تكن تعلم إلى أي الأصقاع توجه الخليفة. كان الأمر يشبه البحث عن إبرة فى كومة قش (وما أكثر "كيمان" القش في السودان). أدلى كل من سأله سلاطين أو بروود وود عن مكان الخليفة بإجابات متباينة، وكان مبعث ذلك فى بعض الأحوال هو الجهل وفي غالبها هو الإخلاص للزعيم المهزوم. كانت القوات تتحاشى جموع جيش الدراويش المنسحب، وصادفت في مسيرها أرضا رملية مبتلة صعب على الخيل السير فيها مما عطل المسيرة. وعندما حلت الساعة الحادية عشر ليلا قرر بروود وود أنه من الغباوة الاستمرار فى المسير، فلبث منتظرا وجنده حتى الثالثة صباحا عند طلوع القمر. كان الجند فى أقصى حالات الإنهاك والجوع، إذ لم يكونوا قد ذاقوا طعاماً سوى قليل من البسكويت وبضع قطرات من الماء الآسن. اقتربت الفرقة عند السابعة صباحا من النهر ولاحت لهم من على البعد الباخرة "المتمة" والتى كانت تحمل الزاد لهم ولخيولهم, فارتفعت الروح المعنوية ومنوا النفس بطعام لذيذ وشراب ساخن. و لكن لم يتم لهم ما تمنوا إذ أن الباخرة ذات الإمداد (والتى لم تكن لتبعد عنهم سوى نحو أربعمائة ياردة) تعذر رسوها على الشاطئ بسبب الأعشاب الكثيفة والأشجار المقطوعة الملقاة على ضفة النهر. وقف الجند يرمقون باخرة زادهم بأسى وهى تعود أدراجها ومعها راحت أدراج الرياح أمانيهم فى طعام طيب وشراب. صدرت لهم الأوامر بمواصلة السير بمحاذاة النهر حتى يتسنى العثور على مرفأ مناسب للباخرة ولكن هيهات... وتوغل الجند أكثر فأكثر فى الصحراء. وفى أثناء سير الجند سرت أنباء عن وجود مجموعة من الدراويش "المهمين" يختبئون خلف الشجيرات على مقربة منهم. تهيأ الجند للقتال ولكن سرعان ما ثبت أن تلك المجموعة لم تكن سوى بعض نساء الخليفة (من بينهن كبيرتهن فاطمة الزوجة الأولى ووالدة شيخ الدين) فتم أسرهن. تفحص قرين ولكنسون النسوة الأسيرات جيدا وكتب فيما بعد: " كانت إحداهن جميلة جداً لم يتعد عمرها السابعة عشر ربيعا. وكانت هجينا من الأمهرة وشعب آخر. ولعلها المرأة المليحة الوحيدة التى رأيتها فى السودان. كانت كل النساء الأسيرات ودودات، بيد أن الجوع كان قد نال منهن، فقمنا بإرسالهن للسردار". لا أظن أن السردار كان فرحاً بهديته تلك (حتى وإن كان من بينهن تلك الصغيرة المليحة) بيد أن أسر فاطمة كان قد أحدث ضجة وشعوراً بالحماس في أمدرمان وأسهم فى زيادة تحطيم الروح المعنوية للخليفة و أتباعه.
قرر بروود وود أنه قد فعل ما فيه الكفاية وما أن حلت الساعة الثانية حتى اكتشف أنه لم يتقدم أكثر من سبعة أميال، وأن ما لديه من بسكويت قد نفذ تماما، و لم يتبق للخيول التى تحملهم سوى وجبة واحدة...وباخرة زادهم "المتمة" بعيدة المنال فى وسط النهر. ليس بإمكان أى إنسان أو حيوان فعل المزيد. وبينما أصر سلاطين على مواصلة حملة تعقب الخليفة – ليطفئ نار حقده على الرجل- أمر بروود وود بالرجوع لأمدرمان عند الحادية عشرة. بدا من حالة الإعياء البادية على الجند و الخيل أن الخليفة قد نجح نجاحا باهرا فى كسب انتقام سريع وغير مستحق.
و فى ذلك الأثناء من ليل الثاني من سبتمبر لم ينعم الغزاة المنتصرون بنوم. صدرت الأوامر ببقاء الجند فى حالة استنفار يقظ على أطراف المدينة الغربية. ولكن ثبت أن هذا الأمرالبسيط نظرياً كان من الصعوبة بمكان. أسدل الليل أستاره ولم يكن هنالك من معلم يدل على المدينة خلا قبة المهدي. وجاس الجند المرهقون - والعرق يتصبب منهم - خلال شوارع المدينة الضيقة المتعرجة وهم يسبون ويسخطون. بين لحظة و أخرى كان دوي رصاص جند الدراويش يسمع هنا وهنالك، بيد أن ذلك لم يسبب أدنى أذى لأحد.
لم يدخل السردار المدينة الا بعد منتصف الليل بساعتين. قضى الرجل ليلته تلك – كما اكتشف لاحقا- فى الحوش المخصص للإعدامات. كان الخليفة وتحسبا لما سوف يحدث، و لإيقاف سيل الهاربين من المدينة قبل سقوطها المتوقع قد أمر بذبح كل الإبل و الخيل و البغال والحمير التي لم يك جيشه بحاجة لها. وجد الجيش الغازي نفسه يقيم معسكره فى مقبرة للحيوانات النافقة... كانت الرائحة لا تطاق، بيد أن الجنود احتملوها حتى الصباح. وعلى بعد قريب فى الصحراء كان يرقد الآلاف من جنود الدراويش وهم يئنون ويصرخون ويتوجعون ألماً من جراحهم. كان همهم الوحيد هو الهروب من جحيم أرض المعركة... ولكن لا يدرون إلى أين؟ فقط حيث لا توجد نيران العدو. لم تكن حال المدينة أكثر هدوءاً. كان هنالك الكثير من الجنود السودانيين فى الجيش الغازي. وقد تم تجنيد المئات منهم عقب معركة عطبرة، ولم يكن هنالك من يبغض الخليفة أكثر من أولئك الجنود.
طرق أحدهم باب إبراهيم اليعقوبابي، وما أن أطل الرجل من خلف الباب حتى رأى عبده الهارب يرتدى زي جيش كتشنر. ظن إبرهيم أن الرجل قد أتى لمواساته فى ساعة هزيمته، ومد يده له مصافحا فعالجه العبد السابق برصاصة فى بطنه أردته قتيلا. وأقبل أهله من داخل البيت عند سماع صوت الرصاص ورأوا الرجل الذي ربوه منذ أن كان طفلا وهو يضع حذاءه على بطن سيده إبراهيم القتيل. توارى الجميع فى هلع حذر الموت.
روى بابكر بدري أنه شاهد (بعد أن عاد سالماً من موقعة كرري) جندياً زنجياً يجر معه بنتاً مملوكة من يدها ورأى مالك البنت يحاول اللحاق بهما وتخليص مملوكته من قبضة الجندي؛ فما كان من ذلك الجندى الا أن التفت نحو الرجل وأسكن جسده عدة طلقات من بندقيته فقتله. أخذ الجندي يد المملوكة وجدّا في السير وهما يتضاحكان. كان الجندي أخا لتلك البنت وكانا قد عاشا معا فى كنف (خدمة) سيدهما القتيل.
ترددت فى ما تبقى من ساعات الليل أصوات طبول تنادي على من بقى من جند الخليفة أن هلموا لترتيب الصفوف ومعاودة القتال. لم يكن ذلك ليزعج جند كتشنر، إذ أنهم كانوا يعلمون أن الخطر قد زال وأن المعركة قد كسبت.
ما أن حل صباح الثالث من سبتمبر حتى بدأ الجيش الغازي فى تفقد جرحاه والعناية بهم. بالطبع كان القدر الأكبر من العناية من نصيب الضباط والجنود البريطانيين، بينما اكتفى الجنود المصريون والسودانيون بما كان يقدمه لهم الأطباء والممرضون المصريون وهؤلاء يعوزهم التأهيل والتدريب. أشارت المجلة الطبية البريطانية لهذه المفارقة (العنصرية) وذكرت أن الجنود المصريين والسودانيين كانوا "يرصون" رصاً على ضفة النهر لساعات فى انتظار العلاج. أبدى تشرشل أيضا امتعاضه مما حدث، وذكر أنه نبه كتشنر لذلك. بلغ عدد المصابين 434 منهم 153 من البريطانيين و281 من المصريين والسودانيين، وتم دفن من مات منهم (23 من البريطانيين و20 من المصريين و والسودانيين) قرب شاطئ النهر.
كانت ساحة الحرب مقززة للعين والأذن وقبل ذلك للأنف. تناثرت جثث كثيرة على مدى مئات الأفدنة، وانتفخت الجثث المشوهة. وحول راية الخليفة السوداء ارتفع "تل" ضخم من الجثث المتراصة والتي كان أصحابها قد تدافعوا للدفاع عن شرف قائدهم. ترك الغزاة الآلاف من جرحى جيش الخليفة ليقضوا نحبهم فى رحلة عذاب موت بطيء بعد أن كانوا قد بعثوا فى الرابع من سبتمبر لميدان المعركة بنحو 150 بغلاً محملة بالماء وبعض البسكويت. ولكن كان ذلك قطرة فى محيط
أسر كتشنر الآلاف من الدراويش. و كتب إلى كرومر مزهواً بأن لديه نحو ثلاثين ألفا من الطباخين والمحظيات "السريات/السراري" (concubines) وهو لا يحتاج إليهم (اليهن) فى شيء. وبدا أن نصف سكان مدينة أمدرمان كان على استعداد للعمل مع جيش الغزاة. قام السردار بطرد هؤلاء من معسكره ولكنهم عادوا يستجدون الطعام والوظائف ويسألون عن أنباء ذويهم المفقودين. كان قلة من الأسرى من طينة مختلفة تماما، إذ رفضوا التعامل مع العدو الكافر والانضمام لجيش الخديوي، بينما قبلت الأغلبية منهم بتبديل الولاء وارتداء ملابس جيش الخديوي. ولم يمض يومان حتى كان هؤلاء ينضمون في زريبة العجيجة إلى من كانوا يصوبون نحو صدورهم البنادق فى أمس قريب. ومن حسن الحظ أن ولاء هؤلاء المستجدين فى جيش الخديوي لم يختبر فى ساحة المعركة.
كانت قبة المهدي قد أصيبت بقذائف المدافع مما أحدث فتحة كبيرة فى قمتها البيضاوية، وتم اقتحام القبة ونهب محتوياتها ونبش القبر بداخلها، وكان يوماً سعيداً وكنزاً قيما لهواة جمع التحف والتذكارات والآثار. لم تشف تلك المذلة والمهانة صدر كتشنر؛ وطفق سلاطين يوغر صدره بنصحه إياه بإزالة القبة تماما ومساواتها بالأرض كي يزول آخر معلم من معالم المهدية. ورغم أن تشرشل وصف تلك النصيحة بأنها "خبيثة" إلا أن كتشنر استجاب لنصيحة سلاطين مؤملا قطع عشم كل من كان يظن بأن المهدية ستبقى حية فى القلوب وأن المهدي إنما ذهب إلى "زيارة الجنة" وسيبعث جسده تارة أخرى.
أجمع الكثيرون على أن كتشنر قد أخطأ خطأ فادحاً بفعلته تلك، وأنه قد خسر كثيرا من سمعته الحسنة كفارس. كتب الرائد سبارك:" إن عظام المهدي قد ألقيت فى النهر، وهذا في نظري عمل يفتقر إلى المروءة". أوكلت مهمة تدمير ما بقى من قبة المهدي إلى مونكى غوردون مما عزز الانطباع بأن الأمر لم يك إلا محض انتقام شخصي. زال – و إلى حين- رمز من رموز المهدية، ثم تمت إعادة بنائها بعد ذلك بسنوات.
تم الاحتفاظ بجمجمة المهدي الكبيرة الحجم. وأراد كتشنر استخدامها كدواية حبر (محبرة) أو ككوب للماء بيد أنه تراجع عن ذلك عندما تبين له مقدار ما ستلقاه فكرته تلك من استهجان في بريطانيا. وقرر أخيراً إهداء الجمجمة لجمعية الجراحين الملكية (وكان يظن أن تلك الجمعية تحتفظ أيضا بأمعاء نابليون!!). سمعت الملكة فيكتوريا بتلك الأخبار فأعربت عن سخطها للورد ساليسبورى, فأبرق ذلك اللورد كرومر طالباً منه "إيقاف ذلك العبث على الفور". ورد كتشنر في برود على كرومر قائلا: " أنا آسف جدا إذا كانت جلالة الملكة تعتقد أن بقايا المهدي لم تعامل بطريقة لائقة. سوف أصدر أمراً بدفن جمجمة المهدي كما طلبت الملكة فيكتوريا". وفى نهاية الأمر تم دفن الجمجمة بكرامة (ولكن من دون طقوس احتفالية) فى مقبرة للمسلمين فى وادي حلفا.
تم نهب بنادق وسيوف وحراب جيش الخليفة (والتي وجدت مكومة بإهمال فى قصره) من قبل جامعي التحف والتذكارات. كانت أغلب هذه الأسلحة مما غنمه الخليفة فى حربه ضد الأحباش قبل سنين. كان من ضمن الغنائم سيف ملك الحبشة، ومقراب (تليسكوب) يخص غوردون، وعلب ساردين ملفوفة فى عدد من جريدة Etoile Belgeبتاريخ 24 مارس 1894م، ونظارات أحد الضباط الإنجليز، وجلود لحيوانات نادرة، وحزام (للتعذيب) به أسنان معكوفة وحادة. بيعت بعض هذه "المقتنيات" وذهب ريعها إلى صندوق خيري للجنود، وأرسل بعضها للمتاحف البريطانية.
تقرر إقامة قداس لروح غوردون. وبعد الكثير من الخلافات بين معتنقي مختلف الطوائف المسيحية تقرر أن تقيم كل طائفة قداسها الخاص؛ وعزفت فرقة الحرس مارشاً عسكريا هو Dead March، بينما عزفت فرقة السودانيين Scipio لهاندل (يمكن الاستماع لهذا المارش في هنا).
لاحظ الناس أن ذلك القداس قد أراح كتشنر راحة عظيمة، فزالت عن وجهه ملامح الكآبة والكدر وأنقلب حاله إلى حال إنسان بكل ما تحمله الكلمة من معان.أخرج الرائد سنو (وكان ضمن من اشتركوا فى حملة إنقاذ غوردون الفاشلة قبل سنين زجاجة شمبانيا كان قد أقسم أن لا يفتحها إلا حين استعادة الخرطوم, وها قد أبر بقسمه!
بعد شهرين (أى فى نوفمبر 1899م) تم قتل الخليفة فى أم دبيكرات ....وتلك قصة أخرى.
No comments:
Post a Comment