ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
(1)
تقديم: أتت البريطانية فيليبا مغربي للسودان في عام 1933 لتعمل كممرضة في مصلحة "الخدمات الطبية السودانية"، و قابلت بعد ذلك بزمن قصير رجلا سودانيا يعمل مدرسا في كلية غوردون التذكارية هو عبد الفتاح المغربي و تزوجته في عام 1937. و السطور التالية تلخيص موجز لبعض ما كتبته تلك السيدة البريطانية في "مجلة أبحاث السودان" في عام 1998 العدد رقم 22، حول أيامهما الأولي و هما يبنيان "عشة صغيرة" في الجريف و كانت يومئذ خارج مدينة الخرطوم. و الجدير بالذكر أن عبد الفتاح المغربي عمل عضوا بأول مجلس سيادة في منتصف الخمسينات، و كان يشيع بين الناس أنه سيصبح ذات يوم ملكا علي السودان، و لما عين – مع أربعة آخرين- عضوا في مجلس السيادة سخر منه عبد الله رجب صاحب "الصراحة" قائلا أن المغربي قد أفلح أخيرا في أن يصبح "خمس ملك" للسودان! قد يجد القارئ في خواطر هذه "الخواجية" بعضا من "مزايا" الاقتران بأوربية عملية تشارك إيجابيا بل تقود عملية بناء بيت الزوجية مصدقة لمقولة "عبء المرأة البيضاء"، و بعض فائدة في رصد الأوضاع العامة في العاصمة وما حولها من القري في فترة نهايات الثلاثينيات من القرن المنصرم، علي الأقل من باب المقارنة العابرة ليس إلا، و من باب ما كانت تسميه الإذاعة المرئية الليبية "كيف كنا و كيف أصبحنا"! الشكر موصول لبروفسير إبراهيم صغيرون الذي دلني علي المقال و أوصاني بترجمته
.........
كان بيتنا الصغير متين البناء و سهل الإدارة و لا يبعد كثيرا عن كلية غوردون، لا عيب فيه سوي أنه كان يقع في وسط المدينة، و كان حلمنا العيش في خارجها. و فتح عبد الفتاح عينيه و أذنيه جيدا و هو يبحث عن أرض أو منزل للبيع. و جاءته الأخبار أخيرا بأن هنالك منزلين معروضان للبيع ، كان أحداهما جيد البناء يقع علي ضفاف النيل الأزرق، بيد أنه كان أكثر بعدا مما كنا نود. و كان الآخر يقع علي ضفاف النيل الأزرق أيضا، و لكنه كان ردئ البناء بل أقرب إلي "الحرابة" ، بيد أنه كان علي بعد لا يتجاوز خمسة كيلومترات عن الخرطوم. بني تلك الدار من قبل قاضي بريطاني أسمه بيوكوك و زرع حولها أثناء الحرب العالمية الأولي حديقة ذات بهجة. كان ذلك القاضي يتنقل بين داره تلك ووسط الخرطوم في عربة تجرها الكلاب (dog cart). بعد بلوغه سن المعاش هجر السيد بيوكوك داره الوريفة دون أن يبيعها و دون أن يوكل من يقوم عليها و يرعاها و لم يهتم بالرد علي من كاتبوه بخصوص داره المهجورة. كان موقع البيت المهجور ممتازا و كانت له مزايا عديدة رغم أن سقوفه كانت قد انهارت في أماكن عديدة و سرقت معظم أبوابه و استحالت أرضيته ترابا و غبارا. لم يخلف القاضي بيوكوك أحدا في سكني تلك الدار سوي المعز و السحالي و الدجاج و طيور أخر، و يبست أو ماتت أشجار و أزهار تلك الدار المهجورة عدا نخلتين قاومتا بإصرار عجيب الجفاف و الزمن. بلغت مساحة الأرض الزراعية الملحقة بالبيت خمسة عشر فدانا. رغم كل العمل الضخم و الجهد الخارق الذي كان يلزم لترميم تلك الدار المهجورة فلقد أعجبنا ذلك الموقع و شعرنا بأن مقدورنا شراء الدار إن رغبنا. قمت بتصوير أسوأ الأجزاء في الدار و أرسلنا الصور مع خطاب إلي القاضي بيوكوك بينا له فيه الحالة المزرية التي وصل إليها بيته السابق و الذي حرصنا علي إخباره بأنه لا يزال يعرف بين الأهالي ببيت بيوكوك، و أننا نرغب في شرائه و إعادته سيرته الأولي. بلغ العجب منا كل مبلغ و نحن نقرأ ردا غير متوقع منه يفيد بترحيبه بالبيع و بتحديده لخمسين جنيها كسعر للبيت. خيل إلينا أنه قد نسي أن يضع صفرا ثانيا بجنب صفر الخمسين، و لكن و لما لم نكن في عداد الأغنياء فلقد سارعنا بإرسال تلغراف بالخمسين جنيها للقاضي السابق، و بذا صار "بيت بيوكوك" ملكا خالصا لنا! قر قرارنا علي زيارة منزلنا الجديد المهدم المخرب في عطلة الصيف و أن نقيم هنالك "معسكرا صيفيا". كان منزلنا يقع في قرية "جريف الحاجة؟"، و صرنا نطلق اسم "الجريف" علي منزلنا الجديد. عقدنا اتفاقا مع نجارين و بنائين من أجل إعادة بناء و تأهيل "الجريف"، و استأجرنا ثلاثة رجال من القرية للقيام بمهمة زراعة الحديقة الخراب. كانت شهور صيف ذلك العام مفرطة الحرارة، بيد أن ذلك لم يثننا عن تنظيف التراب المتراكم علي أرضيات البيت، و كم كنا سعداء عندما أزلنا طبقات التراب و الغبار لنجد أن كل الأرضيات مغطاة بالبلاط. أستمر "الحظ" في الوقوف بجانبنا عندما أخبرنا ذات يوم مفتش المركز في الخرطوم بحري السيد/ جيك سيمر أن اللص الذي كان قد سرق النوافذ الزجاجية (و معها الشيش) مقبوض عندهم منذ سنوات، و أن المسروقات في حرز أمين في المديرية و أن بإمكاننا استردادها حين نريد. كان لبيتنا الجديد نصف دزينة (6) من الغرف تحيط بها فرندات (شرفات) و حوشين في الشرق و الجنوب. و كانت مقدمة البيت في الجنوب من الطوب الأحمر، و بذا كانت مهيأة لتلقي ضربات الرياح و الأمطار (حين تأتي)، بينما كانت بقية المنزل مبنية من الزبالة (خليط من رمل و كلس و روث بهائم). عندما يجف ذلك الخليط يتماسك و يقوي و يتصلب متحديا عوامل الطبيعة، رغم أن له رائحة غير طيبة عند صنعه! تعلمت في أثناء عملية البناء كثيرا من المهارات المفيدة في وضع "عجينة الزبالة" حول النوافذ، و في رص البلاط و تثبيته و غير ذلك. أما الحديقة فأمرها كان عجبا! كانت الحكومة تبيع الأراضي علي شاطئ النيل بنظام القطعة أو الشريط، و الشريط لا يتعدي كيلومتر واحد لتوزيع أكبر قدر من الفرص للناس للاستفادة من النيل في الزراعة، و ذلك يستدعي تحويل الأرض إلي ما يشبه "الأحواض"، و يقفل كل حوض و يفتح حسب حاجة الري من الجدول الرئيس الذي يغذي كل "الأحواض" علي طول الكيلومترات. تتطلب تجهيز تلك الأحواض عملا مضنيا لثلاثة من المزارعين، بينما بدأ فتاح (لعله "اسم الدلع" لعبد الفتاح المغربي. المترجم). في البحث عن مكينة ضخ للمياه (طلمبة/طرمبة). عثر بعد جهد علي طلمبة من ماركة بيتير و أنابيب أربعة بوصات. كان تركيب الطرمبة في موضعها المقرر عملا مرهقا، خاصة و أنه كان من اللازم تحريك الطرمبة مرتين في العام علي الأقل بسبب الفيضان، غالبا في أبريل و سبتمبر. و كانت هندسة و ضع الطرمبة أمرا معقدا و دقيقا لم يكن لفرد غير فتاح أن يجيده! و لما تم تأمين أمر الري، بدأنا زراعة تلك المساحة الضخمة، فزرعنا أشجار البرتقال و الموز و الجوافة و الليمون و النخل و محاصيل كثيرة منها الذرة و الدخن و الذرة الشامية و البرسيم. كانت النتائج مشجعة بل و مذهلة إن تذكرنا أن تلك الأرض ظلت يبابا منذ عقدين أو أكثر من الزمان. اشتعلت أرضنا خضرة و جمالا و نضرة... بيد أن لكل شئ إذا ما تم نقصان، فلقد تناهت إلي سمعي ذات صباح رطب رتيب أصوات ضرب و صراخ و صياح. لقد هجم الجراد... غطت أسرابه السماء، و خرج الناس يدقون الطبول و الصفائح و يهزون حجارة صغيرة و يقذفون أسراب الجراد بالرمل أملا في أن يمنع كل ذلك الجراد من الهبوط فيهلك الزرع. و مع مرور الوقت تزايدت أسراب الجراد بكثافة عالية مكونة سحبا ثقالا. كنت أشم للجراد رائحة لزجة حلوة، بينما تعالت ضربات الصفائح و صرخات المزارعين في كل الاتجاهات، و لكن سرعان ما تبين لهؤلاء أن كل ما كانوا يفعلونه لطرد أسراب الجراد إنما هو جهد ضائع عديم الجدوى. أتي الجراد في نهار ذلك اليوم و ليله علي كل ما هو أخضر في تلك المزارع، و لما أشرق صباح اليوم التالي بدا المشهد مرعبا...سيقان الذرة عارية تماما و فروع الأشجار اختفت في بطون الجراد الجائع. كان منظر الخراب باعثا علي اليأس و القنوط. بيد أن كل شئ لم يمت، فلم تمر بضعة أسابيع حني بدأ الوضع في التحسن شيئا فشيئا، و بدأت الخضرة في معاودة الظهور. حول طباخنا الدنقلاوي كارثة الجراد لفائدة "تذوقية"، إذ كلف الرجل ثلاثة من أبنائه بجمع الجراد الميت و قليه. و علمنا فيما بعد أن الجراد المقلي طبق طيب عند الدناقلة. قدم لنا الرجل بعضا مما طبخ فرفضنا في أدب، إذ أن الجراد ليس من طعام أهلنا!
(2)
تقديم: قدمت البريطانية فيليبا مغربي للسودان كممرضة في مصلحة "الخدمات الطبية السودانية"، و قابلت بعد ذلك بزمن قصير رجلا سودانيا يعمل مدرسا في كلية غوردون التذكارية هو عبد الفتاح المغربي و تزوجته في عام 1937. و السطور التالية هي الجزء الثاني لبعض ما كتبته تلك السيدة البريطانية في "مجلة أبحاث السودان" في عام 1998 العدد 22 ، حول أيامهما الأولي و هما يبنيان منزلهما في قرية الجريف و كانت في تلك الأيام خارج مدينة الخرطوم. و الجدير بالذكر أن عبد الفتاح المغربي عمل عضوا (مستقلا عن الأحزاب) بأول مجلس سيادة في منتصف الخمسينات.
في الجزء الأول تحكي فيليبا مغربي عن عثورها مع بعلها علي بيت ريفي واسع مهجور في الجريف كان يملكه قاض بريطاني سابق، و كبف جاهدا معا لترميم و إعادة تأهيل ذلك البيت و إعادته سيرته الأولي و زراعة الأرض الواسعة المحيطة به.
لما صار بيتنا الجديد في الجريف صالحا للسكني بدأنا في نقل أثاثنا و كامل متاعنا من مسكننا في الخرطوم. لم تكن هنالك و سائل للراحة في بيتنا الجديد، إذ لم يكن ثمة ماء أو كهرباء مما أجبرنا علي اللجوء لوسائل بدائية للعيش. اتفقنا مع رجل ليجلب لنا الماء من النيل مباشرة في "خرج" جلدي علي ظهر حمار. كان يصب الماء في "أزيار" فخارية ضخمة موضوعة علي حوامل حديدية، حيث تقوم تيارات الهواء الباردة بالمرور عبر فتحات الأزيار فتبرد الماء بداخلها، و كنا نضع قلل صغيرة مغطاة بالشاش تحت تلك الأزيار لنجمع نقاط الماء الصافية التي تتساقط من الأزيار(يستعمل الماء المتساقط من الأزيار و المسمي "النقاط" عادة في عمل الشاي و القهوة. المترجم). كان ذلك مصدر ماء شربنا في الجريف لمدة اثني عشرة عاما لم نعاني فيها من أي مرض معدي معوي. و كان المبرد (الثلاجة) في ذلك البيت عبارة عن كيس (جوال/شوال) كنا نضعه تحت الزير و نخبئ فيه الخضر و الفاكهة فتبرد و تحتفظ بكثير من نضارتها. و عوضا عن المصابيح الكهربائية كنا نستعمل فوانيس الجاز ثم صرنا نستعمل من بعد ذلك "رتاين" تضئ ما حولنا. أما الطبخ فكان يتم علي الفحم الحجري، و كان ذلك أمرا شديد الكفاءة بيد أنه كان يفتقر للنظافة إذ يثير الرماد في كل ناحية، و استعملنا "طباخا" متحركا يسهل تحريكه، و كلفت أحد الحدادين بعمل فرن حديدي لوضعه فوق ذلك "الطباخ" كنت استخدمه في صنع الكيك.
و كان "فتاح" يجوس خلال مخازن الخردة وورش الحديد فعثر صدفة علي برميل حديدي ضخم فاشتراه و علقه علي حائط الحمام و ثبت فيه خرطوما و دشا، و بذا صار لدينا حمام عصري يخرج منه الماء المستعمل في الاستحمام عبر فتحة صغيرة في الحائط إلي الزهور المزروعة في الحديقة فيسقيها. و كان ذلك حلا عمليا مفيدا، فلقد لاحظنا أن الذين يضعون خزان الماء علي سطح الدار كان عليهم ملئه بعد الظهيرة (و ليس قبل ذلك) حتى يتمكنوا من أخذ حمام ما بعد قيلولة الظهيرة، و إن لم يفعلوا فلسوف تشوي جلودهم مياه الخزان التي تقارب حرارتها درجة الغليان. أما بالنسبة للمرحاض فلقد حفرنا حفرة عمقها أربعة أمتار في الحديقة سورناها بالطين و مع صندوق رملي نجحنا في الحصول علي مرحاض يخلو من كريه الروائح!
كلفنا نجارا ماهرا في أمدرمان أسمه بشير بصنع أثاث منزلنا، فأبدع في صنع قطع بديعة من الخزانات و الكراسي و طاولة المكتب من أخشاب المهوقني و التيك و البامبو نالت إعجابنا و إعجاب ضيوفنا كذلك. و ظللنا في حالة بحث دائم عن قطع صغيرة من هنا و هناك نجمل بها دارنا الجديدة.
كنا بحاجة ماسة لوسيلة ما لحمل أثقالنا من مكان لآخر و للحصول علي مواد غذائية في بيتنا البعيد عن مركز العمران فابتعنا حمارا حبشيا قويا كنا ننقل علي ظهره ما نبتاعه من دكان القرية الصغير و ما نحتاجه لإعمار حديقة منزلنا، و كنا نجلب السماد الطبيعي (روث البهائم) و الرمل و غير ذلك علي "قفتين" نضعهما في توازن دقيق علي ظهر ذلك الحيوان الصبور. و للحصول علي اللبن اشترينا ثلاث نعجات دارفورية الأصل تقارب في الطول الأغنام الإنجليزية و ليس علي جلدها الصوف المعتاد و إنما كان يميزها شعر يشابه شعر البقر. كانت كل واحدة منها تمدنا بلبن وفير من ضرع بالغ الضخامة. أهداني شيخ البنا (و كان زميلا لفتاح في كلية غوردون) بقرة بيضاء حامل من مزرعته في الجزيرة و ذلك كهدية عرسي. وضعت البقرة حملها بعد حين و تبرع أحد المزارعين معنا بحلبها. كانت عادة السودانيين عند حلب البقرة أن يحضر لها عجلها الرضيع و أن يترك ليلقم حلمة ضرع أمه حتى تدر اللبن الوفير ثم سرعان ما يبعد العجل و تحلب البقرة دون كبير اعتبار لاحتجاج البقرة الحلوب أو عجلها المحروم. عند غياب ذلك الحلاب الماهر كنت أتولي عملية الحلب، بيد أنني أقر بأنها كانت عملية في غاية البطء و العسر. و مع مرور الأيام تضاعفت أعداد ما نمتلكه من حيوانات مزرعية من أرانب و دواجن، انضم إليها بعد شهور عدد من القطط و الكلاب و قرد أسميناه "بخيت"! أقمنا "زريبة" صغيرة خارج الدار تضم مجموعتنا الحيوانية و أحطناها بشجر ظليل، و اتخذ السيد "بخيت" من تلك الأشجار بيتا له. قيدنا قردنا السعيد بحزام حول وسطه مربوط بقيد حديدي طويل و كان القرد يتقافز بين الأشجار في مرح دون أن يحس – فيما نظن- بسلسلة قيده الحديدي الطويل. كان بخيت شخصا ودودا ممراحا (سمت الكاتبة قردها "شخصا" فلا تحسبن أني أخطأت في الترجمة. المترجم) و كان يطوف معي حول الحديقة و هو جالس علي كتفي، و كان شديد الكلف بقضم سنفات "تمر هندي" الحديقة. كان بخيت شخصا مسالما عندما يعامل برقة و حنان، بيد أنه ينقلب لشخص شرس غضوب شديد العدوانية إن أغاظه أحد أو أسأ معاملته. اكتشفنا أن بخيت يمكن أن يلعب دور الحارس الأمين، فكنا نضعه أمام باب الدار لطرد كل غريب و متطفل أو لص محتمل.
تزايدت أعداد ثروتنا الحيوانية فوضعت لنا بقرة شيخ البنا البيضاء (و أسمها ورا) عجلا سمينا آخر، ثم ولدت عجلتها الأولي، و هكذا مضي الحال...بيد أن الحظ في تنمية تلك الثروة لم يكن دوما حليفنا، فلقد جلبت للمزرعة جوزين من الديك الرومي (الحبشي)، و بدا أنهما كانا علي أحسن حال حتى وجدتهما ذات صباح نافقين. كان من رأي الأهالي أن سبب النفوق هو عضة ثعبان أو عقرب. أصبت بإحباط شديد و لم أكرر المحاولة تارة أخري.
كانت العقارب تملأ المكان. و ذات مرة رأيت عقربا علي أرضية الشرفة فأسرعت لأدوس عليها بقدمي، و في عجلة حمقاء نسيت أنني لم أكن أرتدي غير صندل يكشف عن أغلب قدمي فإذا بالعقرب و في سرعة لم أكن أتوقعها تلسعني من بين فتحات الصندل. أحسست بلسعتها و كأنها لسعة ثعبان، و شعرت بسريان السم في قدمي و ساقي. قضيت بعد ذلك ساعات طويلة من الألم الممض ثم بدأت بعد ذلك شدة الألم في الزوال ببطء شديد. معروف أن لسم العقارب أكثر من ترياق، و أنه قلما يقتل ضحيته، إلا أنه عادة ما يقتل صغار الأطفال أو البالغين عندما تلسعهم العقارب في مواضع في أجسامهم قريبة من القلب. و في أثناء الحرب الأخيرة سمعت عن جنديين ماتا بسبب الصدمة علي إثر لسعتي عقربين كانتا مختبئتين في قمصانهما.
من المخاطر العظيمة التي كنا نواجهها في مسكننا بالجريف هو مرض داء الكلب (السعر) و الذي كان متوطنا في البلاد. كنت أنا و فتاح قد تعرضنا مرتين للعض من كلاب ضالة، و كان العلاج مؤلما و مرعبا و طويلا إذ يستلزم العلاج حقن كمية كبيرة من المصل المضاد في البطن و لأيام عديدة قد تبلع أربعة عشر يوما. بيد أن ذلك العلاج المؤلم يعتبر "نزهة لطيفة" مقارنة بالخطر المحتمل إن لم يتم العلاج و كان الكلب العاض مصابا فعلا بالمرض. يعتبر داء الكلب من الأمراض القاتلة المرعبة خاصة في مراحله الأخيرة حين يتشنج المصاب و تصاب عضلاته التنفسية بالشلل التام... يا لها من ميتة مرعبة و غير سوية تجعل ذلك العلاج المؤلم الطويل محتملا بل و ضروريا. بيد أن قتل الكلب العاض و فصل رأسه و بعثه لمعمل "إستاك" لفحص دماغه هو القول الفصل في تحديد إن كان الكلب مصابا فعلا بالداء اللعين. فإن ثبت أن الكلب مصاب فلا بد من إكمال الحقن لأسبوعين، و إن كان الكلب سليما فيمكن إيقاف العلاج وبذا ينجو المصاب المحظوظ من الم الحقن الأليم.
قمنا بزراعة مساحة كبيرة باليرسيم و هو محصول بقلي مفيد للتربة (إذ يمدها بالنيتروجين) و هو سريع النمو و مربح جدا ماليا إذ أنه يباع كغذاء للحيوانات المزرعية و المنزلية. بيد أننا علمنا أن أول إنتاج منه يجب عدم تناوله و هو غض أخضر من قبل الحيوانات المجترة إذ أنه يصيبها بانتفاخ غازي قد يودي بحياتها، و لكنه آمن جدا إن جفف تحت أشعة الشمس الحارة. كنا ننتج من البرسيم ما يفيض عن حاجة بهائمنا فتوليت مهمة تسويق و بيع ذلك الفائض الغذائي الضخم. صنعت في المنزل ميزانا بدائيا لوزن البرسيم قبل بيعه، و كان أول الزبائن خمسة سماسرة يأتوننا علي ظهور حميرهم و يشترون نحو قنطار (100 كيلو) من البرسيم يوميا يذهبون به للبيع في أسواق الخرطوم. و بعد سنوات اشترينا سيارة موريس مكشوفة قديمة تسع راكبين فقط كنت أحمل عليها تلالا من البرسيم أبيعه في الخرطوم و التي كانت تبعد نحوا من خمسة أميال. لم يكن الطريق المعبد من الخرطوم يزيد عن نصف ميل طولا، يبدأ بعده طريق ترابي يشق الصحراء للجريف و يمتد لأكثر من ثلاثة أميال. كانت سيارتي تلهث و تئن و تزن و تتأوه و هي تقطع تلك المسافة و أنا أقودها في قلق متمنية سلامة الوصول دون أن تسخن السيارة العتيقة و تتوقف بي حيث لا أريد. و في ذات مرة كنت في طريق عودتي من السوق بعد غروب الشمس، و إذا بوقوع ما كنت أخشاه... توقفت السيارة في منتصف الطريق، و لم أحر ما أفعل! خرجت من سيارتي وجلة قلقة و بدأت أمعن النظر في أحشائها علي أمل أن اكتشف سر عطلها دون جدوى. أتاني الفرج من حيث لا أدري فرأيت من علي البعد لوري ينهب الطريق نهبا، و عند مروره بقرب عربتي المعطوبة توقف سائق اللوري دون طلب مني و سألني في أدب إن كنت أود المساعدة. لم أشعر بأي خوف إذ أن الأمن و الأمان في ذلك الزمان كان هو الديدن السائد.تقدم السائق لفحص ماكينة سيارتي و سرعان ما أسفر فحصه السريع عن تشخيص مفاده أن المبرد قد سرب ماء التبريد. لقد عرف التشخيص و جاء الآن دور العلاج في ذلك المكان المقفر. صرح السائق بعد لحظات تفكير عاجلة أن العلاج السريع و المؤقت هو أن أكسر بيضة في المبرد الفاغر فاه. يبدو أن الفكرة هي أن تتجمد البيضة في المبرد الشديد الحرارة فتسد موضع التسريب (و لو مؤقتا). بالقطع لم أكن أحمل بيضة في تلك اللحظة، بيد أن الحظ أبي إلا أن يقف بجانبي في تلك الليلة المشهودة فذلك اللوري لم يكن محملا بالخضر و الفاكهة فقط و إنما بالبيض أيضا! كان ذلك مثالا صغيرا لخص طبيعة الشعب السوداني الطيب. كنت امرأة عاجزة في قفر بعيد مظلم، و كانت الغريزة الأولي عند أولئك الرجال هي العون و المساعدة المبرئة من الغرض.
(3)
No comments:
Post a Comment