رحل عن دنيانا الفانية الدكتور عبد الحليم محمد (10 ابريل 1910- 16 ابريل 2009م) الطبيب المشهور و الأديب الرائد. تولى رئاسة تحرير جريدة "مؤتمر الخريجين" (راجع كتاب ”السياسة و الصحافة السودانية" للمرحوم محجوب عبد المالك بابكر) و شغل منصب عضو مجلس السيادة في حكومة أكتوبر عقب سقوط الحكم العسكري الأول، و تولي رئاسة الإتحاد السوداني لكرة القدم وكان من المؤسسين للاتحاد الإفريقي لكرة القدم. اشترك مع(قريبه) الشاعر و السياسي المرحوم محمد أحمد محجوب في كتابهما الشهير(موت دنيا). نال شهادته الأولي في الطب من كلية غوردون التذكارية عام 1933 و زمالة الكلية الملكية في 1948 و الدكتوراة الفخرية في العلوم من جامعة الخرطوم عام 1965. كل هذا مما هو معلوم لكثير من الناس، بيد أن هذه سطور قليلة في حق رجل خدم بلاده في تجرد و صمت في مواطن كثيرة أخص منها دوره في ثورة أكتوبر (1964) التي أطاحت بحكم الفريق عبود. عند ترجمتي (بفضل الله ثم د/عبد الله علي إبراهيم) لكتاب بروفسير القانون الأمريكي كليف تومسون عن ثورة أكتوبر ورد اسم الراحل كثيرا في أجزاء الكتاب الأولي، و كانت صور عديدة و أطياف ذكريات قديمة تطوف بخاطري عند ترجمة الأجزاء التي ورد فيها اسم عبد الحليم محمد، فلقد كنت أري وأنا في المراحل الأولية و الوسطي "يافطة" عيادته قرب ميدان "أبو جنزير" في الستينات، و أسمع عنه و عن حذقه لطبه من أحد أعمامنا و الذي كان من زبائنه المخلصين. كان الفقيد ملء السمع و البصر وحديث المعجبين بعلمه و طبه، فلقد سمعت و أنا صغير عن مرض مزمن ألم بالرجل قيل لنا أنه استدعي إزالة احدي رئتيه، و كنت أعجب لمن يعيش برئة واحدة و يتصدي لجسيم المهام في مجالات المهنة الأصلية (الطب) و السياسة و الفن و الكرة و غيرها من المناشط المتنوعة المستهلكة للوقت و الجهد و الطاقة، و فوق ذلك يكون محبا للحياة و مباهجها.
سأقتطف فيما يلي – علي سبيل التوثيق- أجزاء قليلة مما ورد في كتاب البروفسير كليف تومسون السالف الذكر عن ثورة أكتوبر 1964، و هي أجزاء لا تستلزم شرحا و لا تحتاج لكبير تعليق عن شجاعة الراحل في مواجهة استبداد و سطوة و هيبة حكم عسكري لا يرضي بغير التسليم التام و الإذعان الكامل.
".1تقع مستشفى الخرطوم على طريق دائري بالقرب من محطة السكة حديد الرئيسية في نهاية الشارع المؤدي للقصر الجمهوري على النيل الأزرق، ولأن عدد السيارات التي كانت تنقل المصابين كان كبيراً جداً فإن المستشفى قامت بفتح أبوابها للكل، فملأ المئات ممرات المستشفى وعنابره، بعد أن قاموا بخلع أحذيتهم في الخارج استجابة لأوامر الأطباء. ورغم أنه لم تتم إذاعة أخبار إطلاق النار و أن الشائعات عن الحدث لم تنطلق إلا بعد أن أزف وقت النوم إلا أن أعداد المتوجهين إلي المستشفى ظلت في ازدياد عندما بدأ الطلاب المصابون في الوصول إليها. اتصل أحد الممرضين هاتفياً بمدير المستشفى د. عبد الحليم محمد والذي كان يقيم حفل عشاء لزملائه الأطباء والجراحين في داره، وكانت زوجته قد أبلغته قبل دقائق من ذلك الإتصال بالشائعات عن حوادث في الجامعة. هرع الأطباء على الفور إلي المستشفى. ظن د. عبد الحليم أن إشاعة الإصابات مبالغ فيها رغم أنه كان لديه من الأسباب ما يكفي لإساءة الظن بالحكومة العسكرية، والتي كانت قد جردته - رغم خدمته الطبية الممتازة- من كل أوسمة (غير طبية) نسبة لمواقفه السياسية المعلنة ضد النظام."
2. "كان أبارو مدير الشرطة من بين الموجودين في زحام ممرات المستشفى (بعد أن خلع بزته المدنية) و كان يتحرك بسرعة عبر الممرات في طريقه لغرفة العمليات. دهش الطلاب الذين يعرفونه من سلوكه الوقح. كيف سمح لذلك الشيطان "الحكومي" بالقدوم هنا ؟ ومع اقترابه من د. عبد الحليم هتف البعض عالياً بأن سيارات الإسعاف لم يسمح لها بالدخول لداخليات البركس. تحادث أبارو مع د. عبد الحليم قليلاً. استدار أبارو وغادر المستشفى مباشرة. سرعان ما ذاع خبر بين الناس أن د.عبد الحليم قد طرد أبارو من المبنى، وجلب هذا الخبر الرضا لدى الجمهور الحزين . ولم تمر ساعة حتى كان أبارو في ذات المكان في المستشفى يتحدث مع د.حامد بيومي وبعد قليل انصرف الرجل. مرة ثانية سرى القول في المستشفى بأن أبارو ما جاء للمستشفى إلا للسؤال عن إبنه الطالب في السنة الأولى (علم أحياء) في الجامعة. هل كان بين المصابين؟ وعده د. عبد الحليم بمحاولة استجلاء الأمر. وفي ذات الوقت كان د. عبد الحليم يريد أن يتأكد من أن عربات الإسعاف لم يتم منعها من دخول البركس، لذا فقد غادر أبارو المكان فورا لبحث الأمر."
3. كان من أوائل الأساتذة الذين وصلوا إلي الداخليات بعد إطلاق النار د. علي محمد خير (من كلية العلوم) ود. حسن الترابي ود. عمر أحمد ( من كلية القانون ) وأحمد عبد الحليم (مدير مركز الدراسات الإضافية ) وكانوا يتشاورون مع قادة الطلاب في ما يتوجب عمله، وانضم إليهم فيما بعد د. عبد الحليم محمد ود. طه بعشر.
4. كانت الشرطة تحاول إخراج الجثمان إذ كان من واجبها التعرف على الجثمان و إكمال الأوراق الرسمية. كان الأطباء يشكّون في أن الشرطة قد سمعت بخبر الموكب، وكانت الضغوط كبيرة على د. عبد الحليم محمد مدير المستشفى لإخراج الجثمان، ولكنه نجح في تحويل تحريات الشرطة إذ انه كان يرغب في تعرية مخازي النظام العسكري للجماهير، عمل د. عبد الحليم مع غيره من الأطباء على تأجيل تشريح الجثمان إلي ما بعد الفجر (هذا إذا لم تقم الشرطة بالتدخل قبل ذلك) ولكنه حذر الأساتذة من أن تأجيل الموكب إلي نهار اليوم التالي سيكون عملا مستحيلاً.د/ عبد الحليم محمد كان مثالا للطبيب الملتزم بأخلاقيات مهنته و للمثقف الذي جعل من العمل العام خاصة في المجال الرياضي مجالا جديرا بالاحترام، و كان مثالا أيضا للإنسان الواسع الأفق متعدد المواهب الذي لم يحصر نفسه في مجال مهني وحيد. رأيت الفقيد قبل سنوات قليلة يحكي عن بعض تجاربه في برنامج "نصف القمر" في قناة النيل الأزرق فتمنيت لو أن الرجل فرغ لتسجيل مذكراته و التي لا أشك أنها كانت ستكون – إن نهج منهج المرحوم بابكر بدري في الصراحة- أكثر المذكرات السودانية متعة و إثارة و فائدة، فالرجل صاحب تجارب طويلة عريضة امتدت لنحو قرن من الزمان في مجالات عديدة قلما تيسر لمثله التصدي لها. لا أدري إن كان المرحوم قد استضيف في "أسماء في حياتنا" أم لا، فإن كان الأستاذ عمر الجزلي قد فعلها فلتتكرم الإذاعة بإعادة حلقاتها، و إن لم يفعل فستكون تلك مصيبة أخري تضاف للمصائب التي اعترت تراثنا و سبل حفظه و توثيقه.
إنها بالفعل "حياة دنيا" كما وصفها الأديب جمال محمد إبراهيم تلك التي عاشها فقيدنا الكبير
No comments:
Post a Comment