تنازع القوانين Conflict of laws
بقلم: ريتشارد هل و بيتر هوق Richard Hill and Peter Hogg
من كتاب فيلق الصفوة السوداء: A Black Corps d'Elite
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
It is not worthwhile to try to keep history from repeating itself, for man's character will always make the preventing of the repetitions impossible.
Mark Twain
تقديم: السطور التالية محاولة لترجمة جزء يسير من كتاب ريتشارد هل و بيتر هوق عن تاريخ "ما أهمله التاريخ" من مساهمات الجنود السودانيين فى حرب دفعوا لها دفعا من قبل حكام مصر الأتراك في منتصف القرن التاسع عشر، ليحلوا محل الجنود الفرنسيين الذين حصدتهم الحمى الصفراء فى المكسيك، حيث أبحر سرا (وبطلب خاص من الإمبراطور نابليون الثالث لخديوي مصر) بنحو 446 من الضباط و الجنود السودانيين (ومعهم مترجم مدني واحد) من ميناء الإسكندرية فى سفينة حربية فرنسية إلى المكسيك لمساعدة فرنسا فى محاولاتها الفاشلة لاستعمار تلك البلاد. وهذا الجزء يتعلق بمحاكمة جنود من الفيلق السوداني حوكموا من قبل الفرنسيين فى المكسيك بتهمة ارتكاب مجزرة ضد "الأهالي"، وعزا المؤلفان الواقعة لاختلافات الدين والأعراف والثقافة والقوانين بين "أهل أفريقيا" و "أهل أوروبا".
ويذكر أن استخدام حكام مصر الأتراك للجنود السودانيين فى تلك الحرب كان قد أثار مواجهة دبلوماسية مع الحكومة الأميركية آنذاك، والتي اتهمت الحكومة المصرية (ربما للإسراع بطرد الفرنسيين من القارة الاميريكية) باستخدام الرقيق فى تلك الحرب، وكانت الحكومة الأميركية حينها قد أصدرت قوانين تحرر العبيد وتجرم الاستعباد....
بعد أسابيع قليلة من وصول الجنود السودانيين إلى المكسيك، ساد شعور عام لدى حلفائهم من الفرنسيين بأن هؤلاء الجنود على درجة عالية من الانضباط وعزة النفس، وبالمعايير الأوربية فلقد كان هؤلاء الجند غاية فى حسن السلوك و المظهر. بيد أن المعايير الأوربية فى الذهنية العسكرية الفرنسية كانت تفترض التصرف حسب مقتضيات الطرق الأوربية فى التفكير والسلوك. وهنا تمت معاملة السودانيين بمعايير مختلفة بالكلية فى جانب واحد بالغ الأهمية ألا وهو "إدارة الحرب Conduct of war".
كانت الحرب تعنى لدى السودانيين فى موطنهم الأصلي بإفريقيا "الحرب الكاملة الشاملة التي لا تبقى ولا تذر". لم تكن للرحمة والهوادة والإبقاء على حياة العدو المهزوم أدنى اعتبار. كان المنتصرون يقطعون رقاب القادة المهزومين كتذكار أو دلالة على النصر. وفى تاريخ الخلافة العثمانية/المصرية فى السودان عشرات الشواهد على ذلك مما فعله جنود الحكومة، بل وفعلها ذلك الحكم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت ضربات المهدي حيث حزت رؤوس عدد من قواد المهدية وأرسلت للخرطوم لتعرض على الناس فى الميادين العامة. ولعل ما فعله أحد جنود المهدي من قطعه لرقبة الجنرال غوردون عند سقوط الخرطوم وإرساله لرأسه لأم درمان كان منسجما تماما مع تقاليد الحرب السائدة عندهم. بل إن ذلك التقليد كان سائدا فى العالم القديم، فيروى أن داؤد قطع رأس جالوت وحمله مزهوا لشعبه ليراه. ورث الإسلام وادخل هذا القانون القديم ضمن تشريعاته كما يبدو من حالة ذلك العريف في مناطق مناجم الذهب قرب الحدود الإثيوبية عام 1839م، حين رفضت القبائل السودانية كل المحاولات التي بذلت لإنقاذ حياة العريف بسبب ظروف تستدعى تخفيف الحكم الصادر عليه (حكي المؤلف هنا قصة طويلة لن نتطرق إليها هنا).
في ليلة ظلماء من شهر أبريل عام 1863م أصابت طلقة طائشة جندي سوداني كان يحرس قلعة صغيرة فى ميدلن. بدا لرفقاء القتيل أن الطلقة القاتلة أتت من جهة كانت تقع فيها مجموعة من منازل لا تبعد كثيرا عن القلعة. فما أن أشرقت شمس اليوم التالي تحركت كتيبة من هؤلاء الجند نحو تلك المنازل وهاجمت من فيها وقتلت 8 من الرجال و النساء والأطفال المكسيكيين المدنيين، وجرحت العشرات ثم لاذت بالفرار. بعبارة أخرى أتى زملاء الحارس القتيل بفعل كانوا سيقومون بمثله تماما إذا كان زميلهم قد قتل عند الحدود الإثيوبية أو أعالي النيل. كانوا فقط ينزلون العقاب المناسب. لم يفهموا سبب الاستنكار و السخط الذي أعقب فعلتهم إذ لم يكن يعترفون بقانون آخر غير قانون الانتقام.
لسوء حظ أولئك الجنود، لم يكن قانون الانتقام من ضمن القوانين الفرنسية، والتي كانت تضمن الحقوق القانونية للمدنيين. اعترف السودانيون في التحقيقات الابتدائية ببساطة أنهم قاموا بفعلتهم تلك، ولم يطالبوا بشئ سوى أن تتم ترجمة مسائلتهم فى المحكمة للغة العربية.
بعد جلسات الاستماع الأولية تم توجيه الاتهام لثمانية جنود بتهمة القتل أو محاولة القتل. انعقدت المحاكمة فى فيراكيوز Veracuz فى 29 سبتمبر 1863م، وأعلنت الأحكام في اليوم التالي وكانت على النحو التالي:
الاسم /الرتبة الحكم
مرجان سودان بلارد الإعدام (خفض للسجن فيما بعد لعشرين عاما ثم لخمس)
كندا عمر خمس سنوات أشغال شاقة
ريحان ميخائيل خمس سنوات أشغال شاقة
سالم سلام سيد خمس سنوات أشغال شاقة
الزبير أحمد خمس سنوات أشغال شاقة
ريحان حسن ركابي خمس سنوات أشغال شاقة
كوكو محمد صغيرون غير مذنب
سيد الحاج عبده غير مذنب
كتب أحدهم ( ويدعي شينو ؟ (Chenu فى مذكراته عن هؤلاء الجنود:
" كانوا حتى الآن يعطونك الشعور بأنهم رقيقي الطبع، رغم أن فيهم بعض القسوة التي تتضح أحيانا عند قيامهم بواجبهم. لقد قاموا بارتكاب جرمهم عن سبق إصرار و ترصد وأثاروا بذلك دهشة الفرنسيين بل وغضبهم الشديد. لقد قاموا بارتكاب مذبحة فظيعة ضد أبرياء عزل وأزهقت على أثر ذلك 9 أرواح (8 فى العدد المذكور فى المحكمة!) وجرح الكثير ممن استطاعوا الفرار. وأظهر الجنود أثناء المحاكمة نفاقا كبيرا وزعموا أنهم لا يجيدون غير العربية. لم يكن لجريمتهم من سبب سوى التطرف الأعمى"
يبدو أن عقلية "شينو" المنحازة أبت عليه إلا الاحتجاج على إصرار الجنود على التحدث بالعربية أثناء المحاكمة. أدى ذلك الإصرار بالطبع إلى إطالة أمد الجلسات وإلى العديد من حالات سوء الفهم بسبب رداءة الترجمة وأخطائها وإلى "التعارك اللغوي" بين المترجم المصري وآخر من الجزائر على ترجمة بعض التعابير بسبب اختلافات اللهجات، بينما كان القضاة الفرنسيون يتميزون من الغيظ والملل والغضب وهم ينظرون إلى المتجادلين.
لم يك هؤلاء الجنود البسطاء مجيدين للعربية، بيد أن القليل الذي كانوا يتحدثون به كان بالقطع أفضل من فرنسيتهم التي كانت شبه معدومة. إن المؤمنين بأكثر من عقيدة (مثل أولئك الجنود) يستمدون قوتهم من العصمة و"عدم الخطأ" الذي يحيط بالكلمة المكتوبة. ولما كانت تلك الكلمة المكتوبة هي لغة عقيدتهم: القرآن فإنهم لم يكن ليعتدوا بغيرها. فى المقابل، فلقد كانت اللغة الفرنسية هي لغة حلفائهم من غير المسلمين، فقط لا غير!
ولما حان أوان جلاء القوات الفرنسية من المكسيك، كان السجناء السودانيون قد قضوا نحوا من ثلاث سنوات خلف القضبان فى سان خوان دي أولوا(San Juan de Ulua) و أتخذ قرارا حكيما بإعادة السجناء لموطنهم بعدما تم – وبحمد الله- الصفح عنهم. ولم تتوفر أدلة على أن أولئك السجناء قد تمت ملاحقتهم بعد ذلك فى المحاكم المصرية العسكرية. وكان ذلك محض مخرج سهل لمأزق قانوني. وقد أبدى الفرنسيون في أمر هذه الواقعة سذاجة قانونية عظيمة. إذ يبدو أنهم افترضوا معرفة كل إنسان فى أفريقيا ب غروتياس (*Grotius) و قانون الحرب و السلام.
¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬
* المقصود هو هيجو قورتيس Hugo Grotius, 1583-1645 وهو قانوني هولندي ومشرع وفيلسوف "القانون الطبيعي". أنظر هنا
No comments:
Post a Comment