Sunday, May 13, 2012

هَل يجْمَعُ الله بيْنَ العِلْمِ والمَال؟


من الطُرَف والنكات القديمة التي كثيراً ما تندرَّنا بها ونحن في عهد الطلب نكتة تبخس من قدر التعليم وتعظم بطريق غير مباشر من قدر "الفالحين" من هجروا دروب التعليم، وآثروا "دخول السوق" (مهما يكن للتعبير من معان)، وتقول النكتة إن أحد "الشُطَّار" الذين كانوا من المميَّزين أكاديمياً طوال عهد الطلب، وكان يعمل أستاذاً كبيراً بإحدى الجامعات، ويعتاش من مرتب يكفيه بالكاد شرَّ سؤال الناس. التقى ذلك الذكي الفقير مصادفة بزميل له كان دوماً يتذيل قائمة الفصل، ولا يسمح لأحد بمزاحمته في اللقب الشهير "الطيش"! بعقله التحليلي وبتفكيره العلمي أراد الأستاذ الكبير أن يفهم سر النعمة الظاهرة البادية على صاحبه القديم من سيارة "همر" ضخمة وعمامة لا يقل طولها عن تسعة أمتار وملابس ثمينة لا بد أنه اشترى قماشها من "لندن" وفصَّلها في "دبي"! ردَّ الغني "الغبي" في بساطة أن كل ما في الأمر أنه، وبعد أن فشل في إكمال المرحلة المتوسطة قرَّ قراره على أن يضيف الخمسة ألف جنيهات التي وهبها له والده إلى الخمسة آلآف التي منحها إياه جده فصار عنده خمسة عشر ألفاً من الجنيهات! هنا انتفضَ الرجل الفقير "الشاطر" وصاح بصاحبه: "ولكن مجموع ما أعطيت ليس كذلك"! ابتسم الغني "الغبي" وأفحم صديقه القديم بالقول ساخرا: ما هي شطارتكم دي الـ..... أم أهلكم"! تلخص النكتة التي سمعناها بروايات متباينة أمر الفقر والغنى والعلم والجهل عند العامة والخاصة عندنا، وعند كثير من شعوب الأرض. فعند العرب مئات القصص والروايات والحِكَم المتناقضة (كدأبهم دوما) عن الجمع بين "العلم" و"المال"، فلقد قال قائلٌ منهم "لا يجمع الله بين العلم والمال"، وقال الآخر: "أكل العلماء خبز وماء"، ولا تخلوا المنتديات الإسفيرية من مثل هذا الحديث في الـ"النقاش" بين المال والعلم، كلٌ يُشيد بفضائله ومزاياه، ويقلل من شأن الآخر.

ويبدو أن العرب ليسوا وحدهم في هذا التفريق، فلقد سمعت مهاجراً متعلماً من الأراضي الجديدة وهو يحكي كيف أن ابنه عاتبه عتاباً "رقيقا" عندما قرأ أن بطل العالم الأول في لعبة الغولف "تايجر وودز" كان والده قد تعهَّد تعليمه أصول اللعبة منذ أن كان في الخامسة من عمره، وما أن بلغ السادسة عشرة من عمره حتى بدأ يحصد الملايين الكثيرة وتربَّع على عرش تلك اللعبة الأرستقراطية، وقرأ أيضاً أن والد الشقيقتين السمراوين "فينوس وسيرينا وليامز" كان قد بدأ تعليمهما أصول لعبة التنس منذ صغرهما إلى أن بلغا فيها مبلغاً مكَّنهما من جمع ما يزيد عن الخمسين مليوناً من الدولارات (غير ما حصداه من الإعلانات التجارية)... ردد الصبيُّ كل ذلك معاتباً والده، وقال له ما معناه: نصحتني بضرب الكتب (وهو تعبير غربي يعني القراءة والمذاكرة) ولم تعلمني صغيراً "رياضة" أعيش عليها!
يذخر التراث العربي والإسلامي بكثير من المقولات والقصص عن المقارنة والمفاضلة بين العلم والمال، وعن فضلهما، ومن ذلك أنه "إرث الأنبياء" وأن "العلم ميراث الأنبياء والمال ميراث الملوك والأغنياء"، وأن "العلم باقٍ والمالُ فان" وأن "العلم يحرس صاحبه وصاحب المال يحرس ماله"، ولأن غالب كتاب هذه المقولات والقصص هم من "الكتاب" و"العلماء" الذين يعوزهم المال، فمن الطبيعي أن يفوز فريق أهل "العلم" على فريق أهل "المال"، بيد أن القول الفاصل في الأمر جاء في حديث أشرف الخلق أجمعين (صلى الله عليه وسلم) والذي قال ما معناه أنه إذا مات الإنسان إنقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له. بيد أنه ذكر أهل المال بخير أيضاً إن هم أحسنوا جنيَه وإنفاقه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حسَد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمةً فهو يقضي بها ويعلمها".
يبدو أن أمر تعظيم "البيزنس" والتقليل من أمر التعليم قد ضرب القارة الإفريقية أيضا، فلقد جاء في المجلة الإفريقية "أفريكان بيزنس" في عدد نوفبر 2009م ملخص لبحث قامت به الغرفة التجارية الصناعية اليوغندية جاء فيه أن فرص الفرد كي يغدو غنياً في بلد كيوغندا لا تتطلب تعليماً مميزا، بل إن الدراسة والجد والتحصيل والحصول على درجة جامعية ممتازة لا تجدي فتيلاً في الدخول لعالم البيزنس والثراء، فمن بين عينة عشوائية شملت مائتي رجل أعمالٍ يوغندي ناجح ثبت أن 71% منهم لم يكملوا المرحلة الثانوية. ورغم المآخذ التي قدحت في صدقية هذا البحث (وهل من بحث ينجو من انتقاد؟) من قبيل أن البحث لم يراعِ الظروف التاريخية التي مرَّت وتمر بيوغندا من حرب أهلية وعدم أمان وقلة في التعليم وتكلفته العالية بالنسبة للبعض، إلا أن الحقيقة تبقى في أن التعليم ليس هو المحرك الرئيس للولوج في عالم المال والأعمال. وليس في هذا من ضير كبير بالطبع، غير أن بقاء مجال المال والأعمال حكراً على من لم يستطع النجاح في مجال التعليم الأساسي في بلادنا ليس مما يشرف "ذوي الدثور" تلك الفئة التي أنعم الله عليها بالمال وما يجُّره (بحق أو بغير حق) من جاه وسلطة وبهاء ووضع اجتماعي متميز. ولننظر إلى أثرى أثرياء العالم "بيل قيتس"، والذي قطع دراسته الجامعية ودخل عالم المال والأعمال إلي أن بلغ فيه ما بلغ، وبعد سنوات من النجاحات العظيمة التي أدخلته إلى عالم "الخالدين" بما قدمه للبشرية من خدمة جعلت استعمال الكومبيوتر و"الشبكة العنكبوتية" سهلة ميسورة حتى لأمثالنا، قرر إكمال دراسته والحصول على شهادة جامعية لا يحتاجها ليتقدم لوظيفة أو لتلميع شخصه، فهو أشهر من أن يعرف، وأكبر من كل شهادة تمنحها أي جامعة.
من عجب فإن الكل يبحث عما ينقصه... فإن بعضاً من فريق أهل "العلم" – على الأقل في من نعرف - يسعون، بل ويجرون جري الوحوش كي ينعتقوا من ربقة "الفقر المذل" واللحاق بفريق "المال" وهيهات هيهات، وإن ركبوا لذلك كل مركب، وإن غيروا جلودهم ومعتقداتهم وألسنتهم، بل وداسوا على كرامتهم، وسايروا الموجة الراهنة، وأعينهم على ما سيقبل من "موجات"، ونجد بعضاً من  أهل "المال" يسعون بما منحه لهم المولى – دون كبير جهد أو عظيم فهم - لشراء أهل العلم والتقرب منهم، والسير في ركابهم، ومحاولة الإنضمام لركبهم! كل يحاول أن يظفر "بالحسنيين" دون جدوى، وهل جعل الله لرجلٍ من قلبين في جوفه؟!  

No comments:

Post a Comment