أستعير عنوان هذه المقالة القصيرة من ما جاء في كتاب مذكرات الأستاذ محمد خير البدوي المعنون "قطار الذكريات" عندما أتي علي ذكر الجزار الشهير بسوق الشجرة الشيخ /العم أزرق مصطفى أحد "عشاق" الحكم البريطاني للسودان الذين لم يرضوا بخروج المستعمر البريطاني من البلاد، وكان من الذين ذرفوا ثخين الدمع علي فراق الإنجليز، حتى أنهم أسسوا حزبا أسموه "حزب المفتش البريطاني"! ينادي بعودة (ظافرة) للبريطانيين لتولي شئون البلاد والعباد؛ خاصة بعد أن عاث من خلفهم من الحكام الوطنيين فيها فسادا (في تقديرهم)، وعبثوا بمقدراتها (ولم تك معبثا)، وساموا مواطنيهم سوء العذاب.
كان العم أزرق شديد الإيمان بأننا معشر السودانيين نتطاول علي الإنجليز بينما هم أكثر شعوب العالم عدلا وأشدهم رقيا. من آراء العم أزرق "المتطرفة" في شأن عشقه الأزلي للبريطانيين أن أعضاء "حزب المفتش البريطاني" قبل الاستقلال – حسب زعمه- كانوا أقل من عشرة، أما اليوم (وكان هذا الحديث في عهد نميري) فإن الشعب السوداني بأكمله (هكذا) يقف مع ذلك الحزب، بل وعلي استعداد لخوض حرب من أجل عودة الإنجليز!. وردا علي تذكيره بأننا وبخروج الإنجليز من بلادنا صرنا أحرارا رد قائلا:"ذل الحرية والضياع (في الحكم الوطني) أشد وطأة على النفس من ظلم الاستعمار! أنظر ما تراه اليوم حولك من تخريب وعبث بالمال العام. حكامنا الوطنيون ظنوا أن التحرر من الاستعمار يعني أيضا التحرر من ضمائرهم ومكارم الأخلاق". وعند سؤاله ما العمل إذا رفض الإنجليز العودة لحكم السودان، أجاب في جدية أنهم في هذه الحالة سوف يعلنون الحرب ضد بريطانيا العظمى، حتى إذا جاءت بجيوشها برا وبحرا وجوا قابلها الشعب بالأحضان وقطع عليها طريق العودة! يا لها من حيلة بارعة!
ولا أدري إن كان أحد العاشقين للبريطانيين قد وجد في نفسه الرغبة والشجاعة للقيام بإضافة "حزب المفتش البريطاني" إلى مجموعة الأحزاب المسجلة والتي بلغ عددها حتى الآن ثلاثة وسبعين حزبا، وهنالك المزيد من الأحزاب التي تنتظر التسجيل (الأحداث 14/8/2009)
وحب بعض السودانيين للبريطانيين (خاصة ممن شهد حكمهم وما تلاه من عهود وطنية)، واشتياقهم لأيام دولتهم معلوم ومشهود... وكنت وأنا صغير أسمع جدة لنا لا تكف عن ترديد مقولتها الشهيرة : "حليل وكت الحكم انجليز"، وذلك كلما سمعت أو رأت ما يسوؤها من فعائل ورذائل من خلفوهم! ولعل كثيراً ممن كانوا في سنها يشاطرونها الرأي، وإن لم يجرؤا على التصريح به خوفا من سوء الظن، ومن الاتهام بالعمالة للأجنبي، أو "موالاة" الكفار، أو بعوز الحس الوطني، أو بغير ذلك من التهم المجانية اليسيرة الإطلاق، والتي درج علي بثها "الوطنيون". ومن يقرأ تاريخ دارفور يعلم أنها، ولسنين عددا في عهد الاستعمار البريطاني، كانت تحكم باثنين من الإداريين البريطانيين لا ثالث لهما. ولك أن تقارن ذلك بثلاثة ولاة وعشرات، بل مئات الإداريين الذين يحكمون ذات الولاية المضطربة الآن دون كبير نجاح!
ومن عشاق البريطانيين وأيامهم في السودان شيخ كبير في إحدى قرى (مدن؟) الجزيرة التي انطلق منها تعليم البنات في السودان، عرف برقة الدين.. كان ذلك الشيخ الكبير –غفر الله لنا وله- كارها لصيام رمضان، يفطر نهاره جهرة. وعندما عاتبه الناس علي ذلك صاح فيهم متعجبا: "إنتو يا ناس أفهم من الإنجليز؟ دحين الإنجليز بيصوموا؟" وسارت قولته بين الناس مثيرة للضحك والتفكه! بيد أن إعجاب الناس بالبريطانيين يتعدى العوام ليشمل كثيراً من المثقفين وقادة القبائل وأهل الحل والعقد. كتب صلاح أحمد إبراهيم في مقدمة أحد دواوينه عن ذلك المثقف السوداني الذي يقلب أوراق الصحف الإنجليزية ويداه ترتعشان من فرط الرهبة والإعجاب معا! ويردد الناس مقولة بابو نمر ذلك الناظر الساخر الحكيم، والذي رجع للسودان من زيارة للندن وهو شديد الاقتناع بحسن أدب الإنجليز وسمو أخلاقهم، فقال في مدحهم إن الواحد من هؤلاء الناس "إن عفصك يقول لك سوري، وإن عفصتو برضو يقول لك سوري".
ورد في مقال ترجمته من كتاب باللغة الإنجليزية عنوانه "المملكة المتحدة والسودان: خير الأعداء" حرره د. يوسف فضل ود. عوض الكرسني، كيف أن معظم السودانيين يقدسون حريتهم ولا يحبون أن يكونوا تحت سيطرة بريطانيا (أو غيرها)، بيد أنهم في ذات الوقت يحبون البريطانيين جدا، ويتطلعون كأفراد ومسئولين إلي إقامة أقوى جسور الصداقة والتعاون معهم، وكثير منهم ينظرون بعين الاحترام إلى سلوك البريطانيين الشخصي والعام باعتباره سلوكا مثاليا يصعب (إن لم يستحيل) التشبه به. فسلوكيات معتادة مثل الحفاظ علي المواعيد، وعدم الكذب، وأداء الواجب، لا تذكر إلا وتأتي معها الصورة النمطية لـ "الخواجة" (البريطاني عادة) الجنتلمان المنضبط، صادق الوعد (ومن هنا جاء تعبير "مواعيد خواجات")!.
تتبع الكتاب تاريخ العلاقات الإنسانية بين السودانيين وحكامهم من البريطانيين، وضرب مثلا بالثري المحسن هنري ويلكم، والذي تبرع من حر ماله بمائة جنيه ذهبية لإنشاء كلية غوردون التذكارية بعيد سقوط المهدية. وفي زيارة لاحقة له للسودان حركت أحوال السودانيين الصحية البائسة وانتشار الملاريا مشاعر العطف عنده، فقرر إنشاء معامل/ مختبرات (سميت باسمه فيما بعد) بغرض تعليم وتدريب السودانيين في المواد التقنية، والقيام بأبحاث علمية في مختلف ضروب أمراض المناطق الحارة، واختبار سلامة الماء والغذاء، والكشف عن المعادن التي قد تكون ذات فائدة لنمو البلاد وتطورها. ومن المثير للانتباه أن السير ويلكم أشار أيضا إلى أهمية "التحقيقات الجنائية" لكشف الغموض عن حالات التسمم التي كانت شائعة حينذاك. وهذا مثال واحد لدور فرد بريطاني ليس له ارتباط (فيما نعلم) بالمؤسسات الحكومية ساهم، وفي وقت باكر جدا، في تطوير الحياة في السودان، ونقل ثمار المدنية الحديثة لسكانه.
للدكتورين فرانسيس دينق (سوداني) و م. دالي (بريطاني) كتاب ممتع ومفيد عن العامل الإنساني في الإدارة البريطانية في السودان قام فيه المؤلفان بالكتابة عن العلاقات الرسمية والشخصية بين السودانيين (المحكومين) والبريطانيين (الحكام)، وذلك من وجهة نظر بعض الشخصيات المؤثرة من الطرفين. ففي الجانب السوداني تمت مقابلة مثقفين وإداريين وسياسيين شماليين وجنوبيين (مثل جمال محمد أحمد، وغوردون مورتات، وداؤد عبد اللطيف، وأندرو ويو) وزعماء قبائل (مثل بابو نمر، والزبير حمد الملك. وفي الجانب البريطاني يورد المؤلفان آراء رجال من أمثال أ. ب. نيوبولد، و ج. قريفث، وموريس ليش. من أطرف الآراء التي أوردها الكتاب المذكور هو ما أفاد به داؤد عبد اللطيف، والذي كان لا يحب البريطانيين كثيرا حتى قيض الله له السفر لبريطانيا حيث التقى بفتاة حسناء لندنية أفلحت (ولا عجب) في تغيير نظرته لذلك الشعب، فلم يعد يؤمن بأنه شعب بارد الإحساس ومتعجرف متغطرس! أما الناظر بابو نمر فلقد حكى عن أول لقاء له مع المفتش البريطاني وهو بعد طفل غرير، ومنذ ذلك الحين ظل بابو نمر علي إيمان عميق بأن الشعب البريطاني شعب متفوق (وأعلي رتبة) من غيره من الشعوب...ليس بسبب الأصل العرقي، بل بسبب سلطة مكتسبة كانوا يمارسونها بأدب ورقة شديدتين، أبعد ما تكون عن العنف والشدة. لذا فلقد حزن الناظر الحكيم عند مغادرة البريطانيين للبلاد حزنا شديدا ... ليس حبا في الاستعمار بل لأنه – وكما قال- "حزن يصيبك عندما تفارق صديقا عزيزا".
No comments:
Post a Comment