تأليف: ك.س. انجلس .. عرض: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: من أقوال الرئيس الأمريكي أبراهام لنكون المأثورة أنه قال إن أفضل صديق لك هو من يهديك كتابا. وقد فعلها صديقنا في الأسافير محمد عثمان فأهدانا من مهجره الأسترالي البعيد كتابا استراليا عن أول فوج من الجنود من مستعمرة بريطانية يشارك – طواعية- في الحملة البريطانية التي سيرتها بريطانيا لاسترداد السودان من سلطان الحكم المهدوي.مؤلف الكتاب هو ك.س. انجلس والذي يعمل أستاذا للتاريخ في الجامعة الوطنية الأسترالية. صدر الكتاب في عام 1985م عن دار رجبي.
أبحرت في يوم الثالث من مارس عام 1885م بواخر حربية من ميناء سيدني وعلي ظهرها سبعمائة جندي للالتحاق بالحملة البريطانية الهادفة لاسترداد السودان من قبضة حكم المهدية. كانت تلك بالتأكيد هي المرة الأولي لمستعمرة بريطانية أن يبلغ بحكومتها ومواطنيها الحماس "الوطني" مبلغا يجعلها ترسل بمتطوعين ليمخروا عباب البحار ويعبروا الفيافي والقفار للانضمام للحملة التي نظمت لاستعادة السودان من قبضة من سفحوا دم بطل الإمبراطورية التي لا تغرب شمسها، الجنرال تشارلس غوردون.
عد البعض تلك المشاركة الأسترالية بمثابة تعبير عن شعور فائق بالامتنان للبلد الأم (بريطانيا) ووقوفا معها في الملمات وعند المحن، وساندها كثير من "الوطنيين"، بينما عارضها بعض الليبراليين باعتبارها حملة جائرة ظالمة لا يسندها قانون وليس لأستراليا ناقة فيها ولا جمل.
يتضمن كتاب "البروفة" (ولقد فشلت - لجهلي- في معرفة كنه التسمية) سجلا بأقوال الجنود الذين شاركوا في تلك الحملة، وعن ظروف تكوينها، وعن ما أنجزته تجربة تلك الحملة، وعن آراء الساسة وأهل الكتابة والتصوير والتشكيل فيها. والجدير بالذكر أن الحملة تلك ألهمت أحد هؤلاء التشكيلين المعاصرين (واسمه ليفينج استون هوبكنز) أن يبتدع شخصية كرتونية /نمطية سماها "The little Boy at Manly" خلدها فن الرجل لتصبح من بعد ذلك رمزا للوطنية في مقاطعة "نيو ساوث ويلز" الأسترالية، ومن بعد في كل أرجاء البلاد الأسترالية!
في فصله الأول والمعنون "الموت في الخرطوم" يحكي المؤلف كيف أن خبرا أليما في صبيحة السادس من نوفمبر 1885م صدم مسامع ومشاعر سكان أستراليا مفاده أن الخرطوم قد سقطت في "براثن" محاربي متمرد "عربي" يدعونه "المهدي" وأن بطل الإمبراطورية البريطانية الجنرال "تشارلس غوردون" ربما يكون قد وقع في أسر تلك العصابة المتمردة. كعادة الأخبار السيئة، فلقد سري الخبر سريعا من باخرة علي النيل بالتلغراف الكهربائي، ومن الإسكندرية عبر الأسلاك الأرضية وتلك المغمورة تحت الماء حتى الإمبراطورية الهندية و منها إلي بينانج (في ماليزيا) ثم سنغافورا و بعدها باتافيا ودارون و أدي ليد (في أستراليا). نشرت الصحف الأسترالية الخبر في صباح اليوم الثاني (السبت السابع من فبراير) في كلمات حزينة مؤثرة. زاد الطين بلة ما تواتر من أنباء مثيرة للغيظ تفيد عن وصول حملة "الإنقاذ" للجنرال المحصور متأخرة. وتعقد الأمر أكثر حين حملت صحف اليوم التالي أنباء من القاهرة تفيد بأن الجنرال ما زال حيا يرزق (وينقذ)! وبعد يومين تأكدت أنباء مقتل بطل الإمبراطورية العظيم. حزن الأستراليون (حكومة وشعبا) لاستشهاد بطلهم المحبوب ومبطل تجارة الرقيق كما لم يحزنوا علي أي فرد آخر في كامل الإمبراطورية، واعتملت في نفوسهم مشاعر الصدمة والغضب والرغبة في الانتقام. سرد المؤلف بعد ذلك تاريخا موجزا لما هو معلوم بالضرورة عن مجمل نشاط غوردون منذ مجيئه الأول للسودان، وعودته تارة أخري لذات البلد بناء علي طلب خديوي مصر. سرد المؤلف وصفا موجزا لتوسع الاستعمار البريطاني في أفريقيا وآسيا ونفوذ شركاته، وعن ثورة عرابي في مصر. لا شك أن المؤلف قصد من وصفه الموجز لما سبق هو تثقيف القارئ الأسترالي (والغربي عامة) بالخلفية التاريخية والسياسية التي سبقت وصاحبت وأعقبت الحملة الأسترالية من أجل الانتقام للجنرال "المغدور"، وفي التعريف أيضا بغوردون وبمآثره وإنجازاته.
في الفصل الثاني، وعنوانه "عرض مثير" يقول المؤلف أنه من غريب الصدف أن الأستراليين قد سمعوا بما حاق بغوردون في السودان بسرعة غير معتادة. فلك أن تعلم أن هؤلاء سمعوا بأن الفرنسيين قد بدأوا ثورتهم في يوليو من عام 1789م وانصرم عام كامل (أو ينقص قليلا) قبل أن يصل الخبر إلي سيدني. وبدأت الحرب بين بروسيا والنمسا في عام 1866م وانتهت دون أن يسمع بها أحد من الناس في استراليا، وهذا مما يدل علي مدي أهمية نبأ غوردون بالنسبة للأستراليين، أو أن ربط البلاد بإنجلترا بواسطة التلغراف في عام 1872م قد أنهي عهد العزلة والبراءة فيها. كان مقتل غوردون دون ريب هو أسوأ نبأ تنقله خطوط ذلك التلغراف للأستراليين. شعر هؤلاء بالتقصير، بل بعقدة الذنب في تخليهم عن ذلك البطل المسيحي الأبيض ليواجه مصيره وحيدا أمام حراب وسيوف الدراويش الأوباش.
قام المهاجرون البريطانيون لأستراليا، الجدد منهم والقدامى، بالكتابة للمسئولين وللصحف نعيا لغوردون ومطالبين حكومتهم لم يد العون لحكومتهم ولجيشها في "تلك الأوقات الصعبة" وأن يحذوا حذو (الأخت) كندا، المستعمرة البريطانية السابقة في عونها للبلد الأم. اقترح أحدهم في رسالة نارية أن تجند استراليا جيشا قوامه ألف رجل وتضعهم في خدمة (وتحت إمرة) جلالة الملكة لمقاومة الحكم "المهدوي البربري" في السودان. تداعت المستعمرات (المقاطعات) الأسترالية كافة لتجنيد المتطوعين للذهاب للسودان، وتنافست في ذلك، بيد أن العبء الأكبر في تلك الحملة قد وقع (لأسباب لوجستية وغير ذلك) علي "نيو ساوث ويلز" وحدها. عبر الكثيرون من المقاطعات الأخرى عن عميق أسفهم وبالغ حسرتهم من حرمانهم من شرف المشاركة في تلك الحملة، وفي المقابل سعد حاكم وسكان مستعمرة "نيو ساوث ويلز" واسمه "دالي" بالظفر بالقبول من لندن، ووصف الحاكم قبول لندن عرضه بالمساعدة بأنه "ضربة حظ موفقة"، فلو تأخر قليلا في تقديم طلبه لنالت المستعمرات الأسترالية الأخرى ذلك "الشرف الرفيع"!
في فصله الثالث "الفرقة" يحكي المؤلف عن سيل الطلبات التي انهمرت علي مكتب "دالي" حاكم مستعمرة "نيو ساوث ويلز" للالتحاق بالحملة المتجهة للسودان، بل أن طلابا استراليين يدرسون الطب في أدنبرا (العاصمة الاسكتلندية) عرضوا الانضمام للحملة عندما وصولها بسلام لليابسة. وصل عدد أفراد الحملة إلي 522 رجلا و24 حصانا للضباط، مع فرقة مدفعية قوامها 212 رجلا و172 حصانا. وللتدليل علي مقدار التضحية التي كان جيش مستعمرة "نيو ساوث ويلز" مستعدا لتقديمها، فلقد كانت الأعداد المذكورة تلك تمثل ثلث كامل جيش المستعمرة (وكامل عدده لا يتعدي ألفين من الرجال)! وتطاولت من بعد ذلك صفوف المتطوعين الراغبين في أخذ الثأر من من ظلمهم وقتل "غوردون"! أعلنت السلطات يوم إبحار أولئك الرجال يوم عطلة عامة، ووقف عدد هائل (قدر بخمس مليون نفس) في ميناء سيدني لوداع الحملة (يمكن رؤية صورة لتلك المسيرة خمس المليونية في هذا الرابط:http://www.rl1908.com/Origin/suakin.htm )
كانت وجهة الحملة والتي كان علي رأسها العقيد جون ريتشاردسون هي "سواكن" التي لم تقع في أيدي أتباع "المهدي". كان الزى العسكري الأنيق الذي كان يرتديه المتطوعون الأستراليون هو نفس الزى الذي يرتديه جنود الملكة. كان جندي المشاة يرتدي بذلة حمراء و بنطالا أزرقا ويعتمر قبعة بيضاء. وساد شك في مناسبة ذلك الزى لطقس السودان الحار، وكيف أن ألوانه الزاهية الفاقعة تسهل مهمة قناصة القوات المهدوية، واقترحوا أن يقتصر الزى علي اللون "الكاكي" الذي يستعمله الجيش البريطاني في مصر وغيرها من المستعمرات. استجاب الجيش البريطاني لذلك الاقتراح بإرسال ألف قطعة من الزى الكاكي لسواكن كي تكون في انتظار المتطوعين الأستراليين.
دفعت الحكومة لأولئك المتطوعين مرتبا لم يكن ينعم به الجنود العاديين في المناطق الأخرى. فلقد كان الجندي (النفر) العزب يتلقي خمس شلنات في اليوم، ويزاد عليها شلنين للجندي المتزوج، وستة من البنسات علي كل طفل له. يجب ملاحظة أن الجندي البريطاني في مصر كان يقل راتبه عن شلن واحد في اليوم. لعل سبب تلك الزيادات في الرواتب هو حفز الجنود البريطانيين علي الهجرة لأرض الميعاد الأسترالي.
عبر بعض المحافظين من قادة الجيش البريطاني- كدأبهم دوما- عن شكوكهم في كفاءة المتطوعين الأستراليين وعن قدراتهم القتالية، وطالبوا بأن تعطي للضباط البريطانيين فرصة قيادة تلك القوات أو علي الأقل إلحاق عدد من هؤلاء الضباط البريطانيين بتلك الحملة. كان رد "دالي" حاكم "نيو ساوث ويلز" مؤدبا وحاسما في ذات الوقت، إذ رفض بصورة دبلوماسية ذلك الاقتراح موضحا أنه يثق بقدرات ضباطه وجنوده.
أفرد المؤلف فصلا كاملا (لا يخلو من إملال) لقصة الفنان "ليفينج استون هوبكنز" مبتدع الشخصية الكرتونية /النمطية المسماة "The little Boy at Manly"، وكان ذلك هو عنوان الفصل. في الفصول التي تلت ذلك الفصل ملأ الكاتب مؤلفه بصور ورسومات ممتازة (مأخوذة من صحف تلك الأيام) عن الحملة ومراحل التحضير لها، و"اسكتشات" عديدة من داخل السفينة البحرية "أيبيريا"، وعن تدريبات الجند علي سطحها، وكذلك عن يوم الأحد فيها، وهو يوم الراحة والاستماع لخطب القسيسين المرافقين لجنودها (و هما يمثلان البروتستانت والكاثوليك). صرفت الذخائر للجنود وهم في عرض البحر عندما قربوا من ميناء عدن في 26 مارس، حيث لم تبق السفينة "أيبيريا" طويلا، إذ أمرت الحملة بمواصلة الإبحار لميناء سواكن بأسرع ما يمكن لشدة الحاجة لخدمات جنودها.
كانت تلك هي المرة الأولي التي تقع فيها عيون جنود "نيو ساوث ويلز" علي "الأهاليnatives " (وهي كلمة ملقاة يطلقها المستعمرون علي أي شخص غيرهم من سكان المنطقة التي يغزونها، دون تحديد لمنطقة جغرافية أو عرق محدد). سرد المؤلف ما كتبه (ورسمه) بعض الجنود عن انطباعهم وهم يرون – للمرة الأولي- "الأهالي" بأشكالهم "الغريبة العجيبة"!
رست السفينة "أيبيريا" بسلام في ميناء سواكن في يوم الأحد الموافق 29 مارس متقدمة بثلاثة أيام علي ما وعد به "دالي" الحاكم. استقبلت السفينة وجنودها استقبل الفاتحين من قبل "العرب" وجنود من جنسيات عديدة وعزفت علي شرف وصولهم الموسيقي العسكرية. نزل الجنود ببذلهم الحمراء (محل إعجاب الجميع) وأحذيتهم الضخمة ومضوا – بصعوبة- علي طريق رملي تحت حرارة شمس لاهبة إلي معسكرهم حيث انضموا لنحو اثني عشر ألفا من الجنود البريطانيين والهنود يمثلون حامية سواكن.
بعد ذلك مضي المؤلف في سرد مطول لحياة الجنود الأستراليين في أول يوم لهم علي أرض السودان، وعن المناوشات العسكرية التي وقعت بين "الأعداء" بقيادة "عثمان دقنة" وحامية سواكن، وفي هذا يقول إن الجنود الأستراليين كانوا سيكونون في عداد الموتى لو كانوا قد وصلوا لسواكن قبل أسبوعين من وصولهم، إذ أن "الأعداء" كانوا قد هاجموا "زريبة" كان أقامها الضابط مك نيل قبل اسبوعين، حين هوجموا علي حين غرة وقضي عليهم. كان مقتل متطوعيها سيقع وقع الصاعقة علي "سيدني"، ولكن الله سلم.
شارك الأستراليون في كثير من المعارك الصغيرة ضد الأعداء "الفيزي ويزي" وفي محاولة بناء خط سكة حديد من سواكن لبرر بمشاركة "الأهالي"، بيد أنهم لم يجدوا ما يملأ وقتهم تماما، وأصابهم بعض الإحباط من تلك "العطالة المقنعة"، والتي ازدادت سوءا مع ازدياد حرارة الجو والأوضاع غير الصحية التي كانوا يكابدونها. ولم تشارك فرقة المدفعية الأسترالية بقليل أو كثير في "المجهود الحربي" مما ضاعف الإحباط والشعور بعدم الفائدة، وظل الجنود يتناقلون الشائعات فيما بينهم عن قرب تحركهم لمحطة تالية قد تكون الهند...من يدري؟ وبالفعل تم سؤال الجنود عما إذا كان يرغبون في الخدمة العسكرية في الهند!
يحكي المؤلف في الفصل السابع عن عودة الجنود لديارهم في يوم مطير من أيام أغسطس، وهم في زى "كاكي" كئيب، في تناقض عجيب مع الزى الأحمر والأزرق والأبيض الزاهي الألوان الذي كان يرتديه الجنود عند مغادرتهم لميناء سيدني قبل شهور! قابل الحاكم وبعض المسئولين الفرقة العائدة، وخطب قصيرة تليت علي استحياء. لم يعلن يوم عودة الجنود عطلة رسمية (كما فعلوا حين أبحرت بهم السفينة صوب سواكن)، ومضوا وهم يتضورون جوعا في ذلك اليوم المطير (إذ لم يعطوا فطورا ذلك الصباح) في عرض عسكري بائس.
تعرضت الحملة بعد وصولها لنقد لاذع ومرير من الصحفيين ورسامي الكاراكتيرات، وتسأل الجميع عن الكلفة المادية الحقيقية لتك الحملة، واتهموا الحكومة بإخفاء الحقائق بشأنها.
تعيد الحملة الأسترالية للسودان للأذهان ذكري حملات مشابهة في التاريخ البعيد والقريب علي حد سواء. ويبدو أن التعلم من دروس التاريخ مهارة يفتقدها السياسيون والعسكريون في أنحاء العالم كافة وعلي مر العصور، إذ غدا تكرار "الأخطاء التاريخية" هو ديدن العالم اليوم! وصدق الدوس هيكسلي حين قال: "إن سحر التاريخ ودروسه المبهمة الغامضة تتلخص في أنه ومن عصر إلي عصر فإن لا شئ يتغير، رغما عن أن كل شئ مختلف تماما".
No comments:
Post a Comment