ظلت الدول الأفريقية ومنذ عقود تعتمد بنسب متزايدة علي منح وعطايا وهبات وقروض الدول الغربية، الميسرة منها والمجحفة، خاصة في مجالي الغذاء والخدمات الصحية والطبية.وتقبل الدول الإفريقية هذه المنح، بل وتلحف في طلبها السؤال حتى ما بقي في وجهها مضغة لحم. يرى بعضهم أن هذا "حق مكتسب" لأهل أفريقيا الذين غزاهم الرجل الأبيض بذرائع شتي منها الديني والاقتصادي والحضاري وغير ذلك، وسلبهم خيراتهم (التي كانت مخبوءة في بطن الأرض وتلك الظاهرة للعيان). فالمساعدات "الإنسانية" في نظرهم إن هي إلا "أموال مستردة" لديون سلفت علي عاتق المانحين من المستعمرين السابقين. بينما يرى آخرون أن هذه المنح والعطايا إنما هي "مؤامرة دنيئة" من بنات أفكار المستعمر الأبيض الماكر لتثبيط همة الفرد الإفريقي وجعله يعزف عن العمل والإنتاج ليبقى أكولا كسولا خاملا لا هم له سوى انتظار طائرات الشحن وهي تلقي عليه ما فاض من حاجة "ذوي القلوب الرحيمة" ممن يعملون ويكدون وينتجون غذاءهم وغذاء غيرهم، وقديما قيل: "أطعم الفم تستحي العين"، فيغض الأفريقي عن عمائل ورذائل من يطعمه ويسقيه ويداوي جسده وروحه، بل ويتخذه مثلا أعلي يحذو حذوه، بل قد يحاول الانحشار معه (أو حتى تحته) في جحر ضب واحد! وآخرون يرون أن المساعدات والمنح والهبات ما هي إلا أداة من أدوات "الاستعمار الحديث" الذي جرب كل وسائل السيطرة علي مستعمراته السابقة فلم يجد أنجع من سلاح الطعام والدواء للسيطرة الفعلية علي مقدرات الأفارقة و شل إرادتهم السياسية والاقتصادية، بل وإبعادهم بالكلية من دائرة صنع القرار حتى في عقر دارهم.
لمس مقال نشر في نوفمبر عام 2008 م في مجلة منظمة الصحة العالمية لرجلين يعملان في مكتب المنظمة ببرازافيل في الكنغو بعضا مما تقدم، وتساءلا عما إذا كان بإمكان بلدان إقليم منظمة الصحة العالمية في أفريقيا فطم نفسها عن تمويل المانحين للخدمات الصحية فيها. وبالطبع لم يكونا ينتظران إجابة قاطعة بالإيجاب أو النفي علي هذا السؤال البلاغي (rhetorical question) العويص. لخص الباحثان (وهما جوسيس كرجيا وألماتا ديارا – ناما) الوضع الحالي بالقول بأن أكثر من خمس إجمالي النفقات الصحية في نحو نصف البلدان الستة والأربعين الأعضاء في إقليم منظمة الصحة العالمية الإفريقي تأتي من منح وهبات من خارج القارة السوداء. وتتباين نسب الاعتماد على المساعدات الطبية والصحية بين تلك الدول تباينا كبيرا؛ فبينما تعتمد ثمانية عشرة دولة من الدول الإفريقية علي تلك المساعدات بنسبة تبلغ نحو 11%، نجد أن ستة دول تعتمد عليها بنسبة تتراوح بين 41 إلى 60%، وتتراوح نسب اعتماد بقية الدول ما بين 11 إلى 40 %. فتأمل أين وصل بنا سوء الحال! وإذا علمنا أن تكاليف الخدمات الصحية للفرد الواحد يجب أن لا تقل عن أربعة وثلاثين دولارا للفرد الواحد بحسب توصيات منظمة الصحة العالمية، وأن عدد سكان الدول موضوع الحديث لا يقل عن 722 مليونا من البشر (كغثاء السيل) لوجدنا أن هذه الدول تحتاج لما يقل قليلا عن 36 بليون دولارا سنويا. ولما كان من المستحيل عمليا علي الدول الإفريقية الفقيرة (بما جنته علي أنفسها و/ أو بما صنعه بها سفهاؤها) مجابهة تلك النفقات الباهظة، ومن المستحيل أيضا على الدول المانحة (ويالها من صفة جليلة) الاستمرار في دفع فاتورة علاج مستعمريهم السابقين إلى ما لا نهاية بسبب ارتفاع التكلفة بوتيرة متزايدة، وبذريعة عدم ظهور ما يبشر بخير في الأحوال الصحية لهذه البلدان، لذا يقع علي هذه الدول الإفريقية "المتلقية للعون" أن تنفذ عددا من استراتيجيات، أجملها الباحثان الإفريقيان في الآتي:
تقليل الخسائر بسبب عدم أو قلة الكفاءة الاقتصادية
إعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام
زيادة الموارد عن طريق رفع إيرادات الضرائب الإضافية
تشجيع القطاع الخاص للدخول في مجال الاستثمار في الخدمات الصحية
محاربة الفساد
و لا يحتاج المرء لكبير ذكاء أو عظيم فطنة ليدرك – وعلي الفور- أن مقترحات هذين الرجلين هي إعادة صياغة لمقترحات رأسمالية شديدة البلى أثبتت فشلا ذريعا من قبل، وأدت لهزات اجتماعية وفروقات مهولة بين شرائح المجتمع الإفريقي. ولا أدري ما هو الجديد الذي يطرحانه وقد علما أن "من جرب المجرب حاقت به الندامة". لا يعني ذلك بالطبع تبني دعاة /دعوات الاشتراكية بمسمياتها المختلفة حتى صار للأفارقة "اشتراكية إفريقية" لم يجن منها شعب كشعب تنزانيا غير الفقر المذل الذي بسببه كاد الناس أن يأكلوا ما يلبسون! وبالعودة لمقترحات صاحبينا نجد أن أنكرها هو رفع الضرائب تلبية لتوصية تقليدية من "محفوظات" صندوق النقد الدولي (سيئ السمعة) والذي يرى أن مستوى الضرائب في دول أفريقيا الفقيرة يجب أن لا يقل عن 15% من مجمل الناتج القومي، علما بأن نسبة هذه الضريبة في معظم الدول الإفريقية هي في المتوسط الآن نحو 20% من مجمل الناتج القومي (تتراوح بين ما يقل عن 15% وما يفوق 30%)، بينما تصلى شعوب العالم الصناعي الغني بضرائب لا تقل عن 38% من مجمل دخلها القومي العتيد! وتغفل هذه الاستراتيجية المقترحة الفقر المدقع الذي يعم معظم سكان تلك البلدان، والآثار الاجتماعية و الهزات السياسية التي يمكن أن تحدثها أي زيادات كبيرة في الضرائب لا تسندها إرادة شعبية منتخبة، وثقة في إدارة موارد البلاد ونظمها المالية والضرائبية بصورة خاصة. أما مقترح إدخال القطاع الخاص كمستثمر في الخدمات الصحية، فهي دعوة صريحة وحمقاء لجعل صحة المواطن سلعة يتاجر بها كل من وجد تحت يده فضل مال، ولنا في ما يفعله بعض أصحاب المستشفيات الخاصة عندنا (ولا نعمم بالطبع، فلقد يلجئنا الزمن اللئيم لخدماتهم!) أسوأ مثال، من رفض لاستقبال حالات إنسانية لفقراء لا يجدون ما يدفعونه ثمنا لعلاج باهظ في غرفهم الموسومة زورا وبهتانا بالغرف الفندقية، أو رفض لتسليم جثامين من توفوا وعلي ذمتهم مستحقات مالية إلا بعد كمال السداد، وأمثال هذه القصص التراجيدية تملأ الصحف والمنابر الإليكترونية بما لا مزيد عليه.
أما بقية الاستراتيجيات المقترحة فلا غبار عليها من حيث المبدأ، وأهمها محاربة الفساد، ذلك الأخطبوط الذي ما ذكر إلا وذكرت قارتنا الأم، إعمالا للمثل الشهير "الشيء بالشيء يذكر". يعرف الباحثان الفساد (وكأن ذلك العلم الأشهر الذي يعلو رأسه نار وأي نار يحتاج لتعريف) بأنه إساءة استخدام سلطة ممنوحة من أجل منفعة مادية أو معنوية خاصة. يقلل الفساد بالطبع من الموارد المتاحة للخدمات الصحية والطبية ومن نوعيتها ويزيد من تكاليفها. ومن أدوات محاربته عمل أطر ثابتة لرقابة قانونية ومالية صارمة، وعدم السماح بتجاوز الميزانية المعدة، وإشاعة الثقافة القانونية والمالية في أوساط البرلمانيين والإعلاميين ونساء ورجال المجتمع المدني، ونشر مبدأ الشفافية والمساءلة والمحاسبة (ولنا في ما تفعله الصين بمن تثبت عليه تهمة الفساد أسوة حسنة). وكما جاء في أثر عن سيدنا عمر بن الخطاب (و قيل عن سيدنا عثمان بن عفان، وقيل عن أبي حامد الغزالي) فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن؛ فتفعيل القوانين الرادعة و تطبيقها علي مستحقيها دون التفات لمكانتهم أو قربهم أو ما تعلمون، كفيل بتقليل الفساد إلي أدنى الحدود. كل ذلك في جانب الصحة والعلاج. أما عن اعتماد أفريقيا المزري علي معونات المانحين الغذائية فأمرها يجلب الصغار وقلة الاحترام لذواتنا. وهذا هو موضع المقال القادم
No comments:
Post a Comment