Saturday, May 12, 2012

شيخ كبير على الجسر .. بقلم: آرنست هيمنجواي

قصة قصيرة بقلم: آرنست هيمنجواي
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

نبذة قصيرة عن المؤلف: آرنست هيمنجواي (1899 - 1961) روائي وكاتب وصحفي أمريكي شهير نال جائزتي بولزر ونوبل في الآداب. شارك في الحرب العالمية الأولي وفي الحرب الأهلية الإسبانية كمراسل حربي لصحيفة أميريكية (وعن تلك الحرب تدور الأقصوصة المترجمة التالية). كان ملحدا ومات منتحرا بسبب الاكتئاب الذي أصابه.
................


علي جانب الطريق جلس شيخ كبير تكسو ملابسه غبرة، وعلى عينيه نظارة ذات إطار حديدي. كان هناك جسر مؤقت على النهر؛ وكان ثمة رجال ونساء وأطفال يعبرون وكذلك بعض السيارات والشاحنات. مضت العربات التي تجرها البغال تتمايل وهي تصعد بصعوبة إلى الشاطئ الآخر وهي خارجة من الجسر، والجنود يدفعون عجلاتها دفعا. تئن وتتأوه الشاحنات وهي تحاول صعود ذلك الجسر والخروج منه، بينما يجرجر الفلاحون أرجلهم المغبرة علي الجسر في وهن. كل ذلك والعجوز جالس دون حراك؛ فلقد كان منهكا لا يقوى علي أن يخطو خطوة واحدة.
كانت مهمتي أن أعبر ذلك الجسر وأستكشف مقدمته لتحديد النقطة التي تقدم منها العدو. قمت بمهمتي وعدت للجسر. لم تتبق في الجسر عربات كثيرة أو مشاة، بيد أن الشيخ الكبير ظل ساكنا في مكانه لا يتحرك.
سألت العجوز: "من أين أتيت؟"
أجابني وعلي فمه ابتسامة: " من سان كارلوس".
كانت تلك هي مدينته، وبدا سعيداً ومبتسماً وهو يذكرها.
فسر حديثه بالقول : " كنت أرعى حيواناتي ".
لم أفهم تماما ما كان يعنيه فقلت: " أوه..."
قال: "نعم. لقد بقيت أرعى حيواناتي ، وكنت آخر من خرج من مدينة سان كارلوس".
لم يكن يبدو من هيئته أنه يعمل راعيا للضأن أو البقر. حدقت في ملابسه السوداء المغبرة، ووجهه الرمادي، ونظارته ذات الإطار الحديدي وسألت الشيخ: "ما هي الحيوانات التي كنت ترعاها؟".
أجاب وهو يهز رأسه: "أنواع مختلفة. اضطررت لتركها جميعا".
كنت أراقب الجسر ومنطقة دلتا نهر" أبرو" التي تشبه أفريقيا، وأنا أفكر في كم من الوقت سيمر قبل أن نرى العدو ونسمع الأصوات الأولى الدالة علي أول مواجهة معه.
ظل الشيخ الكبير ساكنا في مكانه دون حراك.
سألته: "ما هي أنواع  الحيوانات التي كنت ترعاها؟"
أجاب قائلا: "كانت كلها ثلاثة حيوانات. معزتين وقطة وحيدة، ثم هنالك أيضا أربعة أزواج من الحمام"...
سألته: " ثم أجبرت على ترك كل ذلك؟"
"نعم. تركتها بسبب القصف المدفعي. أمرني الرائد بترك حيواناتي بسبب القصف المدفعي."
سألته وأنا أصوب نظري نحو نهاية الجسر وأراقب الموقف حيث تبقت أعداد قليلة من السيارات تجد في السير لتخرج من الجسر للضفة الأخرى: " أوليس لديك عائلة؟"
أجاب في بساطة: " لا. لدي فقط ما ذكرته له من حيوانات. لا خوف علي القطة بالتأكيد. يمكنها أن تعتني بنفسها دون عون. بيد أني لا أستطيع تخيل ما سيحيق بالحيوانات الأخرى".
سألته: " ما هو اتجاهك السياسي؟"
أجاب قائلا: " ليس لدي اتجاه سياسي. بلغت من العمر ستة وسبعين عاما. قطعت أثني عشر كيلومتراً لأصل هنا. ليس بإمكاني متابعة السير بأكثر مما فعلت."
رددت عليه بالقول: " هذا ليس مكانا آمنا للتوقف. إن واصلت السير فستجد شاحنات في طريقها إلي تورتوزا."
قال الشيخ الكبير: " سأنتظر هنا قليلا ثم أواصل السير. إلي أين تتجه الشاحنات؟"
أجبته : "إلي برشلونة".
رد قائلا: " لا أعرف شخصا في تلك النواحي، ولكني أشكرك جدا علي كل حال. أشكرك مجددا."
رمقني بنظرة فارغة وبعينين أضناهما التعب وقال لي وكأنه يريد أن يشرك أحدا في همه:
" ستكون القطة بخير... واثق أنا من ذلك. ليس من سبب للقلق عليها. ولكن الحيوانات الأخرى. لا أعلم ما سيحدث لها؟"
" لا تقلق. ستمر الأزمة وستجدها بخير."
"أتظن ذلك؟"
أجبته وأنا أراقب ضفة النهر البعيدة حيث لم يعد هناك أثر للسيارات: "لم لا؟"
"ولكن ماذا ستفعل تلك الحيوانات عند القصف المدفعي؟ لقد أمرت بالخروج بسبب ذلك القصف."
سألته: "هل تركت باب قفص الحمام مشرعا عندما غادرت؟"
"نعم"
"إذن سيطير الحمام."
"نعم. بالتأكيد سيطير الحمام. ولكن ماذا عن الحيوانات الأخرى؟ لعله من الأفضل ألا أفكر في الحيوانات الأخرى."
قلت له وأنا أحثه علي المغادرة: " إن كنت قد نلت قسطا من الراحة فالأفضل أن تنهض الآن وتواصل السير."
رد قائلا وهو ينهض من جلسته: "شكرا لك." تأرجح قليلا من جانب إلي جانب، وما لبث أن عاود الجلوس علي الأرض المغبرة وهو يردد بصوت خافت كمن يحدث نفسه: " لم أكن إلا رجلا يرعى حيواناته... ولكني لم أعد كذلك. لم أكن إلا رجلا يرعى حيواناته ."
لم يكن أمامي ما يمكن فعله للشيخ الكبير. كان ذلك اليوم هو أحد عيد الفصح، وكانت قوات الفاشيين تتقدم نحو " أبرو". كون ذلك اليوم يوما رماديا غائما لا يمكن الفاشيين من التحليق بطائراتهم، وبالإضافة إلي حقيقة أن القطط تعتني بنفسها دون عون... كان ذلك هو غاية ما كان يؤمله العجوز من حظ حسن.

No comments:

Post a Comment