الكاتب: كونتن رينولدز
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
نبذة قصيرة عن المؤلف: أصدر الكاتب الأميركي الجنسية كونتن رينولدز (1902م – 1965م) خلال مسيرته الأدبية الحافلة حوالي عشرين كتابا. عمل كمراس حربي في لندن وباريس وإيطاليا وجنوب الباسفيك خلال الحرب العالمية الثانية، ورصد مشاهداته في كتاب شهير صدر عام 1941م بعنوان «الجرحى لا يبكون». كما كتب عدداً من القصص القصيرة وسيرة حياته وسيَرُ حياة كثير من المشاهير مثل ونستون تشرشل والأخوة رايدر.
النص:
تعد مونتريال من المدن الكبيرة جداً، بيد أن بها - مثلها مثل كل المدن الكبيرة - أزقة ضيقة جدا... هنالك مثلاً شارع الأمير إدوارد، والذي لا يتعدَّى طوله أربعة مجموعات سكنية تنتهي بشارع مقفول. لا أحد يعرف شارع الأمير إدوارد مثل بيير دوبن، وكيف لا وبيير دوبين هذا هو بائع اللبن الذي ظل يمد زبائنه في ذلك الشارع باللبن طوال الثلاثين سنة الماضية.
خلال الخمسة عشر عاماً الماضية ظل بيير يوزع اللبن على عربة يجرها حصان أبيض ضخم اسمه جوزيف. إنهم في مونتريال (خاصة في مناطقها الناطقة بالفرنسية) يسمون الحيوانات بأسماء القديسين مثلهم مثل الأطفال. عندما انضمَّ ذلك الحصان الضخم لخدمة شركة اللبن في المنطقة لأول مرة لم يكن يحمل اسما. أعطوه لبيير دون اسم ليجر عربة الحليب... مرر بيير يده برفق على عنق حصانه، وربت على جانب بطنه ثم حدَّق في عينيه وقال:
«يا له من حصان عطوف، لطيف ومخلص. إنني أرى روحاً نبيلة تشع من عيني هذا الحصان. إنني سأعطيه اسم القديس العطوف اللطيف المخلص جوزيف».
لم ينقضِ عام إلا وجوزيف خبير بكل الطرق التي خبرها بيير، ولم يكن في حاجة لأن يقيده صاحبه بلجام. كان بيير يصل إلى إسطبل الشركة في الخامسة صباحا، ويلقي على جوزيف تحية الصباح، ثم يربطه بالعربة، ويأخذ مقعده. يلتفت الحصان نحوه، ويزعم السائقون الآخرون وهم يبتسمون أن جوزيف يبتسم محيياً صاحبه كل صباح. يصيح جاكوس رئيس العمال بجوزيف أن انطلق. يهمس بيير لحصانه الأثير قائلاً: «فلنتحرك يا صديقي العزيز». ويمضي الصديقان يجوبان شارع الأمير إدوارد في فخر.
تنطلق العربة دون أي توجيه من بيير وتعبر ثلاثة مجمعات سكنية في شارع القديس كاثرين، ثم تدلف يميناً عبر مجمعين سكنيين في شارع روزلين، ثم تعطف يساراً حيث يقع شارعنا، شارع الأمير إدوارد. يقف الحصان جوزيف أمام البيت الأول، ويعطي صديقه بيير نحو نصف دقيقة لينزل من مقعده ويضع قارورة اللبن أمام الباب الأمامي للدار، ثم تمضي العربة متخطية بيتين وتقف أمام البيت الثالث، وهكذا إلى أن يكتمل المرور على البيوت في الشارع. ثم يدور جوزيف بالعربة من دون أي توجيه من بيير ليعود من حيث أتي. نعم، كان جوزيف حصاناً ذكيا.
وفي الإسطبل كان بيير دائم التفاخر بحصانه الذكي ويكرر القول بأنه لا يمس اللجام، وأن جوزيف يدرك جيداً أين يجب عليه التوقف، بل إن رجلاً كفيفاً بمقدوره أن يقود العربة التي يجرها ذلك الحصان الذكي.
ومضت السنون، ولم يتبدل شيء ما غير أن بيير وجوزيف أصابهما الكبر معا، ليس على نحو مفاجئ بالطبع، ولكن بالتدريج البطيء. اشتعلت شوارب بيير الكثة شيبا، ولم يعد جوزيف يرفع رأسه كثيراً ويلتفت كما كان يفعل قديما. لم يلحظ جاكوس رئيس العمال أبداً أن بيير قد أدركه الكبر حتى أتاه بيير ذات يوم يتوكأ علي عصا ثقيلة.
صاح جاكوس في بيير مداعباً وهو يضحك: «مرحباً يا بيير. لعلك أصبت بداء النقرس؟»
أجاب بيير دون أن يعي ما يقول وهو غير متأكد تماماً «بالطبع... بالطبع يا جاكوس! الواحد منا يكبر وتوهن منه القدم».
«يجب عليك أن تدرب ذلك الحصان على حمل قناني اللبن للأبواب... إنه يفعل كل شئ سوى ذلك»!
كان بيير يعرف كل فرد من أفراد الأربعين عائلة الذين كان يخدمهم في شارع الأمير إدوارد. كان الطهاة يعلمون أن بيير أمي لا يقرأ ولا يكتب. لذا فإنهم عوضاً عن القيام بفعل ما اعتادوا عليه عند حاجتهم لرطل إضافي من اللبن بترك رسالة قصيرة في داخل قارورة فارغة فيها ما يطلبون، كانوا في حالة بيير يشيرون إليه من بعيد عندما يسمعون دمدمة عجلات عربته وهي تطرق الشارع المرقع. كان بيير كثيراً ما يرد على إشاراتهم في مرح وهو يقول: «لديكم الليلة ضيف على العشاء إذن».
كان لبيير ذاكرة من حديد لا تكاد تفرط في شيء. ما أن يخطو إلى داخل الإسطبل حتى يقول لجاكوس: «لقد أخذت عائلة باكوينز رطلاً إضافياً هذا الصباح، وأخذت عائلة ليمونيز رطلاً من القشطة»، ويقوم جاكوس بتسجيل كل ذلك في مدونة صغيرة لا تفارق جيبه أبدا. كان أغلب السائقين يقومون بكتابة فواتير ما يبيعونه أسبوعيا، وتحصيل ثمنها، بيد أن جاكوس – لحبه لبيير - أعفاه من تلك المهمة الكتابية. كان كل ما على بيير فعله هو أن يظهر في تمام الخامسة صباحاً أمام الإسطبل ويذهب إلى عربته التي كانت تقف دوماً في ذات المكان على الشارع، وأن يوزع اللبن في ذلك الشارع. كان يعود للإسطبل بعد نحو ساعتين، وينزل بصعوبة من مقعده، ويصيح بالجميع «أور فوار... إلى أن نلتقي»، ويمضي لحال سبيله وهو يعرج قليلا.
ذات صباح أتى مدير شركة الألبان في جولة تفتيشية على الموزعين. أشار رئيس العمال جاكوس إلى بيير وقال للمدير الزائر: «لاحظ كيف أنه يتحدث مع حصانه، وكيف أن الحصان يصغي باهتمام ويلتفت نحو بيير! انظر إلى عيني ذلك الحصان! أكاد أجزم بأن لدى هذين الاثنين سراً مشتركا. لقد لاحظت ذلك أكثر من مرة. كثيراً ما يبدو أنهما يسخران منا، بل يضحكان علينا وهما يغادران الإسطبل في طريقهما إلى شارعهما الصغير». ثم أضاف في لهجة يشوبها بعض القلق: «إن بيير رجل جيد يا سيدي الرئيس، لكنه طعن في السن. لا أدري هل من اللائق أن أقترح عليك أن يتقاعد الرجل وأن ينال معاشاً صغيرا»؟
ضحك الرئيس وهو يقول: «طبعا... طبعا. لقد قرأت ملف الرجل. لقد قضى في توزيع اللبن لسكان هذا الشارع ثلاثين عاماً دون أن يشتكي أحد منه ولو لمرة. هلاَّ أخبرته أن عليه أن يستريح وسنواصل دفع مرتبه كالعادة».
رفض بير أن يستقيل. أصابه رعب شديد من مجرد فكرة أن لا يقود جوزيف كل يوم. قال في ذلك وهو يخاطب جوزيف: «إننا رجلان عجوزان. دعنا نمضي بقية العمر معا. عندما يتقاعد جوزيف، فسوف أتقاعد أنا أيضا».
تفهم جاكوس – وهو رجل طيب - ما يقوله بيير. كان هنالك شئ ما في جوزيف وبيير يجلب الابتسام الودود. كان الواحد منهما يبدو وكأنه يستمد قوة خفية من وجود الآخر. كان كبر سنهما يتبخر ثم يختفي عندما يأخذ بيير مقعده في العربة وعندما يبدأ جوزيف في التحرك، بيد أن بيير كان يبدو عجوزاً جدا عند عودته من جولته الصباحية وهو يخطو نحو داره متعثراً عرجا، وكان جوزيف حينها يبدو عجوزاً أيضاً وهو مطأطأ الرأس يجرجر رجليه في بطء نحو إسطبله.
وذات صباح باكر بارد، والظلام لا يزال يخيم على المكان ألقى جاكوس بخبر وقع على بيير وقع الصاعقة. بدا الهواء ذلك الصباح كالنبيذ المثلج، وكانت كتل الجليد الذي تساقط خلال الليل تلتمع كملايين من قطع الجواهر الصغيرة بعضها فوق بعض.
قال جاكوس: «بيير. إن حصانك لم يستيقظ هذا الصباح. لقد طعن في السن. لقد بلغ من العمر خمسة وعشرين عاما، وهو عمر يماثل خمسة وسبعين عاماً عند الإنسان».
رد بيير ببطء قائلاً: «نعم... نعم. لقد بلغت أنا أيضاً الخامسة والسبعين. ولن يكون في مقدوري أن أرى جوزيف مرة ثانية».
طمأنه جاكوس بالقول: «بلى. يمكنك أن تراه مرة أخرى. إنه يرقد هنالك في مكانه المعتاد في الإسطبل وتبدو عليه السكينة. هلا ذهبت لتلقي عليه نظرة أخيرة»؟
تقدم بيير خطوة نحو الإسطبل ثم تراجع كالملسوع: «لا...لا... إنك لا تفهم يا جاكوس».
ربت جوزيف على كتفه وقال: «سنجد لك حصاناً في جودة جوزيف. ولن ينقضي شهر إلا وتكون قد علمته الطريق وما ينبغي عليه عمله... تماماً كما فعلت مع جوزيف. سوف...».
لم يكمل جاكوس جملته عندما رأى نظرة بيير وهو يسمع هذا الكلام. كان بيير ولسنوات طويلة يرتدي قبعة ثقيلة تكاد مقدمتها تغطي عينيه، يستخدمها ليدرأ عن وجهه لفحات الهواء البارد. تفحص جاكوس وجه بيير وعينيه فرأى هذه المرة ما راعه وملأه رعبا. رأى نظرة الذبول والموت في عيني بيير. كانت عيناه تفصحان عن ما كان يحسه من حزن عميق يعتصر قلبه وروحه. بدا وكأن قلبه وروحه قد ماتا.
قال له جاكوس: «خذ اليوم إجازة من العمل». بيد أن بيير لم يسمع... كان قد عبر الطريق وهو يعرج، وإن كان قدر لأحد من الناس أن يراه في تلك اللحظة فسيرى عينا الرجل وهما تدمعان ودموعه تبللان خدوده، وسيسمع صوت أنينه الباكي. مشى بيير نحو ركن الشارع وبدأ في العبور حين صاح قائد شاحنة ضخمة مسرعة منبهاً الرجل وهو يضغط على الكوابح محدثاً صوتاً يشبه صراخاً عاليا. لم يسمع بيير شيئا. مضت خمسة دقائق قبل أن تصل عربة الإسعاف، حيث أعلن قائدها أن الرجل كان قد مات على الفور.
هرع جاكوس ومعه عدد من موزعي اللبن إلى حيث الحادث، وألقوا نظرة على الجسد المسجى.
صاح قائد الشاحنة محتجا: «لم أستطع التوقف. لقد واصل السير نحو الشاحنة وكأنه لا يراها. مشى نحو الشاحنة وكأنه أعمى».
انحنى دكتور الإسعاف على جثمان بيير وهو يفحصه: «أعمى؟ نعم هو أعمى، ومصاب بماء العين (كاتراكت). لقد كان الرجل أعمى لمدة لا تقل عن خمسة سنوات». التفت نحو جاكوس وقال: «تقول إنه كان يعمل تحت إدارتك؟ ألم تعلم بأنه كان أعمى»؟
ردَّ جاكوس بما يشبه الهمس: «لا... لا... لم يكن أحد منا يعلم... واحد من أصدقائه فقط كان يعلم حقيقة أمره... صديق له يسمى جوزيف. لقد كان سراً مشتركاً بينهما.
No comments:
Post a Comment