قصة قصيرة بقلم : روش كارير
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
هرولتُ نحو البيت، رافعاً كتاب المطالعة، بعد انتهاء يومي الأول في المدرسة، وصحت معلنا:
" لقد تعلمت اليوم القراءة، يا أمي!" فأجابتني قائلة: " هذا يوم مهم، أريد لأبيك أن يكون هنا ويرى بنفسه." و صرنا ننتظر... وانتظرت كما لم انتظر من قبل. و ما أن سمعت وقع خطوات أبي على عتبة الدار حتى فتحت كتابي علىركبتي، وإصبعي يشير إلى الحرف الأول من الجملة القصيرة.
صاحت أمي من وراء الباب: "لقد تعلم ابنك القراءة اليوم". كانت فرحتها تعادل فرحتي.
فقال أبى: "هذا رائع، رائع. تحدث الأشياء بسرعة هذه الأيام. لن يمر وقت طويل، يا بني، حتى تتمكن من قراءالجريدة بالمقلوب وأنت مستلق... تماماً كما أفعل أنا الآن."
فطلبت من أبي أن يسمعني وقرأت عليه الجملة التي لقنتني إياها معلمتي سستر بريجيت. لكن بدلاً من أن يرفعني أبى إلى أعلى، كما توقعت، ويضعني على عاتقه، فإنه نظر إلى أمي، التي لم تهم هي الأخرى بتقبيل صغيرها، الذي تعلم القراءة في سن مبكرة.
وتساءل أبي عما يحدث فأجابت أمي: "تبدو كأن الجملة باللغة الإنجليزية. أرني كتابك." و قَرأتْ الجملة التي تعلمت فك رموزها.
"أراك تقرأ كما لو كنتَ إنجليزياً. أعد القراءة. وقرأتُ الجملة القصيرة مرة أخرى".
فصاحت أمي: "إنك تقرأ بلهجة إنجليزية،"
فقلت: "إنني أقرأ بنفس الطريقة التي علمتنا إياها سستر بريجيت ", فصاح أبى محتجاً: " لا تقولي لي إن ابننا يتعلم لغته الأم بلهجة إنجليزية."
لقد لاحظت أن سستر بريجيت لا تتحدث بنفس طريقتنا, وكنت أرى ذلك طبيعيا لعلمي أن الراهبات لا يفعلن أي شئ مثلما يفعله بقية الناس, فهن لا يلبسن كما يفعل الآخرون ولا يتزوجن وليس لديهن أطفال، ويعشن دوما في الخفاء.
ولكن من أين لي أن أعلم أن سستر بريجيت تتحدث بلهجة إنجليزية، فأنا لم أسمع قط كلمة واحدة باللغة الإنجليزية.
عرفت خلال الأيام القليلة التالية أن سستر بريجيت لم تكن من مواليد قريتنا, و بدا لي غريبا أن شخصاً يمكن أن يعيش في قريتنا دون أن يكون قد ولد فيها، إذ أن كل سكان القرية الآخرون من مواليد القرية.
لم يكن الآباء في القرية سعداء بتعليم أبنائهم لغتهم الأم بلهجة إنجليزية. وصاروا يتهامسون بأن سستر بريجيت أيرلندية, وأنها لم تولد في كندا. كان السيد كاسيدى، حفار القبور،أيرلندياً كذلك لكنه قد ولد في القرية، بينما أتت سستر بريجيت من ايرلندا.
سألت أمي مرة "أين ايرلندا؟"
"إنها قطر صغير، شديد الخضرة في المحيط، إنه بعيد، بعيد جداً".
صرت أجتهد، مع تقدم دروس القراءة، في نطق الحروف المتحركة كما تنطقها سستر بريجيت، وفي التركيز على نفس المقاطع التي تركز عليها، فقد كنت متلهفاًً لقراءة الكتب التي أحضرها أعمامي من كلياتهم البعيدة.
أحسست فجأة بالحاجة لمعرفة موقع ايرلندا فسألت: "أين تقع ايرلندا، يا سستر بريجيت؟"
وضعت المعلمة كتابها جانباً وأجابت: "ايرلندا هي البلد الذي ولد فيه أبواي، وجدي وجدتي، وأجداد أجدادي. وولدت أنا في ايرلندا كذلك. وعندما كنت صغيرة في مثل سنك كنت أعيش في ايرلندا. كان لدينا خيول وخراف. ثم طلب مني الرب أن أكون في خدمته..."
"ماذا تقصدين؟"
"سألني الرب إن كنت أود أن أصير راهبة ورددت بالإيجاب. ثم تركت قريتي بعد ذلك: هجرت أسرتي ونسيت ايرلندا ونسيت قريتي.
"نسيت قريتك؟"
قرأت من نظراتها أنها لم تكن تود الإجابة على سؤالي.
" ومنذ ذلك الحين ظللت أعلم أطفالكم. كان بعض الأطفال في مثل عمرك عندما كنت أعلمهم, و هم الآن أجداد، أجداد كبار في السن."
لم يكن وجه سستر بريجيت، المطوق بمنديلها المشدود، يشي بعمر محدد, ولم أع أنها كانت كبيرة وكبيرة جداً في السن إلا بعد أن أخبرتني أنها كانت معلمة أجدادي.
"هل عدت أبدا إلى ايرلندا؟"
"لم يشأ الرب أن يعيدني إلى هنالك."
"لابد أنك تشتاقين لوطنك."
"أمرني الرب أن أعلم الأطفال الصغار القراءة والكتابة حتى يتمكن كل طفل من قراءة كتاب الحياة العظيم."
" أنت أكبر من أجدادنا يا سستر بريجيت! هل سترجعين لايرلندا قبل موتك؟"
لا بد أن الراهبة العجوز قد فهمت من تعبير وجهي أن الموت بعيد عنى بحيث يمكنني الحديث عنه ببراءة، كما أتحدث عن العشب أو السماء. فقالت ببساطة:
" دعنا نواصل القراءة، فتلاميذ المدارس في ايرلندا ليسوا فوضويون مثلكم."
قضينا خريف ذلك العام نجتهد في تعلم القراءة وما أن حل شهر ديسمبر حتى كان بمقدورنا قراءة بعض النصوص الصغيرة التي كانت سستر بريجيت تخطها لنا بنفسها على السبورة بخط جميل كنا نحاول تقليده دون جدوى. وكانت كلمة "ايرلندا" تتكرر كثيراً. وكتابتي لكلمة ايرلندا هي التي علمتني نسخ الحرف .
لم تكن سستر بريجيت عند باب الفصل، لتحيينا بعد انتهاء عطلة عيد الميلاد، فقد كانت مريضة.
علمنا من همسات الآباء أن سستر بريجيد قد فقدت الذاكرة. لم نستغرب لذلك فقد كنا نعرف أن كبار السن يفقدون الذاكرة وكانت سستر بريجيت كبيرة في السن لأنها كانت معلمة لأجدادنا.
في أواخر شهر يناير اكتشفت راهبات الدير أن سستر بريجيت ليست في غرفتها. لقد بحثوا عنها في كل غرفة وفي كل حجرة دراسة.
كانت الرياح تعصف والجليد يسقط بكثافة خارج الدير، فلا أنت ترى سماءاً ولا أرضاً، كما يقولون. لقد هاجرت سستر بريجيت، التي قضت الأسابيع الأخيرة طريحة الفراش، في أوج العاصفة. لقد تعرف بعض رجال القرية على سترتها السوداء وسط الثلوج وكانت هي حافية القدمين.
وعندما سألها الرجال عن وجهتها أجابت باللغة الإنجليزية أنها آيبة للوطن، لايرلندا.
No comments:
Post a Comment