Saturday, May 12, 2012

قصة إنشاء ميناء بورتسودان

بقلم: كولن رالستون باتريسون
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

(1)

تقديم: في هذا المقال الذي نشر في المجلة البريطانية "دراسات السودان" (العدد 39 الصادر في يناير 2009) قام المؤلف البريطاني كولن رالستون باتريسون بالتوثيق لإنجاز قام به عمه المهندس رالتسون كينيدي في مجال تخطيط و تنفيذ ميناء بورتسودان بعد سنوات قليلة من الفتح البريطاني المصري للسودان. و الجدير بالذكر أن المؤلف كولن رالستون باتريسون كان يعمل و إلي حين تقاعده في 2002 بروفسيرا  للطب في جامعة دندي الاسكوتلندية، و لكنه في هذا المقال يكتب كمؤرخ محترف مدعما بحثه بالصور و الأشكال التوضيحية و المراجع. و السطور التالية محاولة لتلخيص موجز لبعض ما كتب ذلك الطبيب عن إنجازات عمه المهندس قبل عقود! 


استعاد الجيش البريطاني المصري  بقيادة الجنرال هورايتو كتشنر  السودان من قوات المهدية في عام 1898، و غدا كتشنر بذلك الإنجاز بطلا قوميا. كان الرجل يختار معاونيه بعناية فائقة و كتب إليهم ذات مرة تعميما طمئنهم فيه علي أنه يثق في أنهم سيؤدون المهام التي ألقيت علي عواتقهم بكامل الإخلاص و التفاني و السرعة المطلوبة، و أنه لن يتواني عن عزل كل من يفشل في أداء مهمته، و أنه لن يتدخل كثيرا في طريق أداءهم  لعملهم إن أفلح في الوصول للهدف المنشود بصورة مشرفة و سريعة و فوق هذا و ذاك بأقل التكاليف. 

لا بد من تسجيل حقيقة أن أعدادا صغيرة نسبيا من الإداريين و الضباط البريطانيين قد نجحت  في انجاز كثير من الأعمال في زمن قصير جدا، لعل ابرز هذه الإنجازات هو إنشاء ميناء بورتسودان علي ساحل البحر الأحمر. و سيسجل التاريخ أن ذلك الإنجاز كان و سيظل من أكبر إنجازات و ثروات السودان، بيد أنه سيسجل أيضا إن عملية إنشاء ذلك الميناء قد صاحبتها كثير من المشاكل و الخلافات الشخصية بين العاملين في ذلك المشروع الضخم. و في هذه الورقة سنحاول استكشاف بعض الجوانب غير المعلومة عن خلفيات بعض القرارات التي تركت أثرا علي الميناء حتى يومنا هذا.
كانت أولويات الجنرال كتشنر تحتم عليه أن يولي أمر إعادة بناء مدينة الخرطوم معظم اهتمامه، خاصة إعادة بناء قصر الحاكم العام حتى ينزع أي شك في قلوب السودانيين من أن الحكم الجديد قد أتي ليبقي. عين كتشنر أول مهندس في خدمة حكومة السودان و هو الملازم جورج جورنجي (و الذي منح لقب سير فيما أقبل من سنوات). استدعاه  كتشنر ببرقية بالغة الاختصار و الصرامة جاء في نصها الآتي: " احضر فورا للخرطوم لبدء الأعمار. لدينا 20000 جنيه. ابدأ بالقصر".  و ما أن بدأ شهر يناير من عام 1899 حتى كان 20000 من الرجال يجدون في صنع الطوب، و بعد مرور شهر واحد رصفت كل الطرق و غرست 7000 شجرة.

في أغسطس من عام 1899 انضم لفريق المهندسين الملازم ماكدوقال راليستون كينيدي و هو الحائز علي ميدالية لإشرافه علي مشروع هندسي في كانيدا بجزيرة كريت. كان ذلك المهندس لصيقا بكتشنر في مجال الإنشاءات. في ذات مرة كلفه كتشنر بالتخطيط لعمل مبني ما فقام الملازم الليل كله لإنجاز الخرائط و عرضها في الصباح الباكر علي كتشنر للحصول علي موافقته. نظر إليها كتشنر للحظات ثم فتح أحد أدراج مكتبه و أخرج منها خرائطا لا بد أنه قضي في عملها الساعات الطوال و رمي بها للملازم قائلا: "هذه هي فكرتي"!

و في ديسمبر من عام 1899 حل كينيدي محل جورج جورينجي و الذي انتقل للعمل تحت إمرة الجنرال كتشنر في حملاته في  جنوب أفريقيا. عين كينيدي كمدير للأشغال العامة في ابريل من عام 1904 و مضي في عملية الإنشاء و التعمير بوتيرة لا تعرف الكلل. تم بناء القصر علي نفس قواعد القصر القديم الذي عاش فيه غوردون باشا، و بعد بناءه سكن فيه كتشنر لوقت وجيز في خريف 1899. افتتحت مكاتب الحكومة في عام 1901. و منذ ذلك التاريخ بدأت الحكم الثنائي تحت إمرة سير ريجلابد وينجت (و الذي خلف كتشنر) في التفكير في إقامة خط سكة حديدي من النيل عند أتبرا إلي سواكن علي ساحل البحر الأحمر. ظلت سواكن مدينة عتيقة تحتضن ميناءا هاما لتصدير الصمغ العربي و منفذا بحريا للحجاج المتجهين نحو مكة. كان من المأمول أن يسهم وصول خط السكة حديد إلي سواكن في تسهيل عمليات تصدير محاصيل نقدية جديدة مثل القطن.

كلف كينيدي في عام 1903 بمراجعة أمر إقامة الخط الحديدي و أن يكتب تقريرا عن مدي تقدم سير العمل فيه، فركب البحر الأحمر علي سفينة كانت تقل الحجاج من السويس و سمع من قبطان السفينة خلال الرحلة كلاما كثيرا عن المشاكل التي سيواجهها في سواكن. أخبر ذلك القبطان كينيدي بأمر هام جدا ستكون له آثارا هامة علي اقتصاد البلاد، إذ اخبره بوجود مرسي أفضل من سواكن و لا يبعد أكثر من خمسة و ثلاثين ميلا (56 كيلو) شمال مكان يسمي "شيخ برغوث" (يسميه الهدندوة حتي اليوم حسب ما أنبئنا به صديق خبير "برؤوت". المترجم)  تيمنا بإسم شيخ صالح دفن هناك و له قبة تزار، و أراه ذلك المرسي فوجد فيه كيندي  مكانا منسبا جدا لميناء جديد يبز سواكن. كانت سواكن جزيرة ذات فتحة ترتبط مع البحر بواسطة قناة ملتوية ضيقة. كانت تلك الفتحة من الضيق بحيث لا تسع دخول سفينة حمولتها تزيد علي 5500 طن، و   لا تتسع تلك الفتحة لأكثر من خمسة أو ستة سفن في آن معا، بل لا يمكن لتلك السفن من أن تدور حول نفسها في ذلك الممر المائي الضيق. و شهد كيندي مثالا علي ذلك بنفسه عندما رأي احدي البواخر علي اليابسة تحاول الالتفاف و دخول الماء.
و بالإضافة إلي نقائص سواكن كميناء، فلقد لاحظ كيندي أن سواكن كمدينة تعاني من قصور عظيم. كانت سواكن جزيرة ضيقة تعج بالمساجد العتيقة. كانت الأراضي المحيطة بتلك الجزيرة (عدا منطقة واحدة كان يعمل فيها مهندسو السكة حديد) تعج بفرائس (quarries) تحتاج إلي أن تملأ. و باختصار، توصل كيندي إلي أنه من الصعوبة إنشاء ميناء حديث في سواكن دون بذل أموالا طائلة لا قبل للحكومة وقتها بها. و علي النقيض من ذلك فإن الفتحة في "شيخ برغوث" كانت أوسع و أعمق و أفسح تتيح للسفن المناورة و الدوران في كل الاتجاهات. كانت المنطقة حول ذلك الميناء المقترح مهجورة مقفرة لا يسكنها احد مما يجعل استملاك الأرض لإنشاء الميناء و المدينة زهيد التكاليف.

لم يكن كيندي هو أول من أشار إلي مشاكل مدينة سواكن. فلقد كتب الملازم مهندس شيبندل (و كان يتجول في سواكن هو و زميل له يدعي واطسون في إنتظار تجهيز قافلة جمال تأخذهما عبر الصحراء) متسائلا عن الحكمة من اختيار سواكن كميناء في المقام الأول، إذ أن مدخل الميناء مغطي بالشعب المرجانية لدرجة تمنع السفن من الدخول ليلا للميناء. كان ذلك الرجل (و ربما آخرين كذلك) علي علم بوجود مرسي آخر أكثر ملائمة من سواكن يقع شمالا.

تلقي كيندي في عام 1904 أمرا من السير وينجت ببحث إمكانية تعديل و توسيع القناة المؤدية لميناء سواكن. بحث كيندي الأمر و كتب في تقريره أنه حتى إن أمكن تنفيذ ما طلبه وينجت فإن ذلك سيهلك مالا لبدا، و ستظل عيوب الميناء الأخري كما هي. فصل كيندي في تقريره المرسل في ابريل من عام 1904 كل عيوب ميناء سواكن و الفوائد المرتجاة من إنشاء ميناء جديد في "شيخ برغوث". أكد كيندي في تقريره  أنه و تنفيذا للأوامر الصادرة إليه  فلقد قام بوضع خطط إعادة بناء و تعمير ميناء و مدينة سواكن و المباني الحكومية فيها، بيد أنه يقترح التروي و عدم التسرع بصرف أموال طائلة في ذلك المشروع قبل أن تدرس لجنة مختصة أمر "شيخ برغوث".

لم يتسرع السير وينجت في البت في الأمر و ظل حائرا يقلب الأمر من كل النواحي. كانت يعتقد – مخطئا- أن البحرية الملكية تؤثر سواكن علي ما سواها، و كان محرجا بعض الشيء أمام تجار سواكن و الذي قطع لهم وعدا بضمان رفاهيتهم و نمو تجارتهم و ازدهارها عند وصول خط السكة حديد إلي منتهاها في مدينتهم، و كان الجميع منذ عام 1901 يتنبئون لسواكن بمستقبل واعد و بأن تنمو تجارتها و تربو . كذلك كان السير وينجت يخشي من تغيير خططه بعد أن قطع العمل في مد خط السكة حديد شوطا مقدرا. 

ظل كيندي يلح علي السير وينجت بأن يكون لجنة تشمل خبراء من البحرية الملكية كي تعاين الموقعين (سواكن و "شيخ برغوث" ) بيد أن الأخير ظل أسيرا لتردده و شكه مما دعا كيندي – بعد أن عيل صبره-  إلي تخطيه و الكتابة مباشرة إلي رئيس وينجت في مصر اللورد كرومر. علي إثر ذلك كونت لجنة لبحث أمر الميناء كما اقترح كيندي، و لكن وينجت أسرها في نفسه و لم يغفر لكيندي فعلته المخالفة للعرف العسكري المتبع، و سادت بينهما أجواء من العداء و الكره و ظلال من التوجس و الريبة. كونت اللجنة التي تدارست أمر الميناء الجديد من ثلاثة مهندسين و قبطان في البحرية الملكية و قدمت تقريرها في أكتوبر 1904 و الذي أتي مفضلا "شيخ برغوث" علي سواكن كميناء جديد مقترح. أضاف التقرير أيضا أن تحويل نهاية خط السكة حديد من سواكن للمدينة الجديدة لن يؤخر إكمال مد خط السكة حديد إلي النيل، فلسوف يكتمل بناء الخط الحديدي في خلال ثلاثة أو أربعة أعوام، بينما يمكن أن ينتهي العمل في إنشاء الميناء الجديد في خلال عام و نصف تقريبا.

رحب كيندي بالتقرير بيد أنه تحفظ علي ما أوصت به اللجنة من أن يكون مساحة المدينة المقترحة تعادل خمسة مرات و نصف مساحة حدائق القصر في الخرطوم. كان كيندي يعتقد أن مساحة المدينة المقترحة ينبغي أن لا تقل عن أربعة أمثال ما أوصت به اللجنة. كان الرجل يتحسب لإمكانية التوسع المستقبلي في المدينة المقترحة، و كان يصر علي أن المباني لا بد أن تكون علي بعد لا يقل عن 140 ياردة من رصيف الميناء الجديد. تم أخذ ملاحظات كيندي في الاعتبار عند وضع الخطط النهائية للميناء الجديد، و التي قام كيندي نفسه بعملها في خلال اسبوعين اثنين. كان كيندي مهموما أيضا بتأمين مصادر مياه شرب للمدينة، و فكر في حفر آبار ترتبط بأنفاق تصب في وحدة تجميع للمياه  يمكن توزيع المياه منها. كان الرجل يدرك أن مياه الآبار في سواكن و "شيخ برغوث" ستكون في الغالب مالحة، لذا فلقد نصح بحفر الآبار بأعماق بعيدة أو حفرها في مناطق بعيدة عن البحر.


(2)

تقديم: في هذا المقال الذي نشر في المجلة البريطانية "دراسات السودان" (العدد 39 الصادر في يناير 2009) قام المؤلف البريطاني كولن رالستون باتريسون بالتوثيق لإنجاز قام به عمه المهندس رالتسون كينيدي في مجال تخطيط و تنفيذ ميناء بورتسودان بعد سنوات قليلة من الفتح البريطاني المصري للسودان. و الجدير بالذكر أن المؤلف كولن رالستون باتريسون كان يعمل و إلي حين تقاعده في 2002 بروفسيرا  للطب في جامعة دندي الاسكوتلندية، و لكنه في هذا المقال يكتب كمؤرخ محترف مدعما بحثه بالصور و الأشكال التوضيحية و المراجع.
و السطور التالية محاولة لتلخيص موجز لبعض ما كتب ذلك الطبيب عن إنجازات عمه المهندس كيندي  قبل عقود. و في هذا الجزء يشير الكاتب إلي ما أنجزه كيندي في مجال الإنشاءات في بورتسودان و ما جلبه ذلك النجاح عليه من تآمر رؤساءه و زملاءه الحساد، و ذلك أمر مشهود و معلوم، فهنالك دوما كما قال طه حسين "من لا يعملوا و يؤذي نفوسهم أن يعمل الناس".
..............

بدأ العمل الفعلي في تشييد ميناء بورتسودان في يناير 1905 تحت إشراف مهندسي البحرية الملكية و رعاية مباشرة و لصيقة من كيندي بصفته مدير الأشغال العامة. و في مايو من ذات العام افتتح الميناء، و لم ينصرم العام حتى تزايد عدد سكان المدينة فبلغ 4300 نسمة منهم أناس من مصر و أثيوبيا و اليونان و ايطاليا  و سوريا و إيران إضافة لعدد كبير من السودانيين. أطلق علي الميناء اسم "بورتسودان" بعد أن رفض وينجت و كرومر أن يسمي الميناء بورت وينجت أو بورت كرومر تيمنا يهما.
و باشر الميناء العمل منذ 1906 رغم أنه لم يتم افتتاحه رسميا حتى اليوم الأول من ابريل عام 1909 حين قدم خديوي مصر عباس حليمي الثاني لبورتسودان علي ظهر يخته الرسمي حيث استقبل بإحدى و عشرين طلقة، و أقيم حفل رسمي علي شرفه خاطبه و ينجت و كيندي.

أقيمت عدد من المباني بالميناء و المدينة منها مبني من الحجر للجمارك و مكتب للبريد و مدرسة و مستشفي و مسجد خشبي و كنيسة يونانية و إرسالية للرومان الكاثوليك و مدرسة لهم. و في ديسمبر من عام 1906 تم إنشاء "نادي بورتسودان الرياضي"  و تم وضع حجر الأساس لحديقة عامة في المدينة في عام 1908.

كانت شهور الصيف في بورتسودان شهور عذاب متصل بالنسبة للأوربيين و السودانيين علي حد سواء، إذ أصيب كثير من الأوربيين بحمي الدينجيو (dengue fever) لذا اقترح كيندي إقامة مصيف علي مرتفعات البحر الأحمر في منطقة "أركويت" علي ارتفاع يبلغ أربعة ألف قدم. تتوفر فيه ملاعب تنس و ميادين غولف.
لم تجلب إنجازات كيندي له سوي حسد رؤسائه  في المجلس العام للحكومة و زملائه علي حد سواء.  دبر له حساده مجلس محاسبة برئاسة سير هامبري بروان بدعوي أن كيندي قد أوغل في الصرف البذخي علي إنشاء الميناء، و أن ما خصص من أموال للصرف علي الأعمال العسكرية قد حولها كيندي للإنشاءات المدنية.  لحس حظ كيندي فلقد كان حريصا علي الاحتفاظ بكل الوثائق الدالة علي أوجه الصرف و التفويض الممنوح لكل مشروع، فلم تجد لجنة التحري أساسا لإدانته بما نسب إليه فبرأت ساحته.  بيد أن ذلك لم يرض كارهيه، فلقد جاء في وثائق حكومة السودان خطاب من لي استاك ( و كان حينها مديرا للمخابرات العسكرية السودانية) مرسل إلي السير وينجت يأسف فيه علي تبرئة كيندي، و جاء في الخطاب: " إن التقرير باختصار يبرئ كيندي  كمهندس، بيد أنه يلومه علي ضعف مقدرته علي اتخاذ القرارات المناسبة  و عدم قدرته علي التوافق و التعامل الحكيم مع المصالح الحكومية الأخري، و هي عيوب في شخصيته يدركها الكل".  لم ييأس حساده من محاولة إيذاءه، فعمدوا إلي اقتراح يهدف إلي إعادة تنظيم مصلحة الأشغال العامة بحيث يمكن إلغاء وظيفة كيندي بالكلية، بيد أن تلك المحاولات باءت بالفشل الذريع و بقي كيندي بعدها في وظيفته لمدة تسعة سنوات أخري.
كانت هنالك مشكلة دائمة الحدوث في بورتسودان ألا و هي العطش في المدينة و الميناء علي حد سواء. و كما توقع كيندي فلقد كانت مياه الآبار في بورتسودان غير مستساغة للأوربيين، مما استلزم جلب الماء من آبار و خزانات تبعد عن المدينة بما لا يقل عن خمسة أميال في خور موج، و كانت تنقل للمدينة في ناقلات سكة حديد. حاول الناس أيضا حفر آبار شديدة العمق أملا في أن يكون ماء هذه الآبار أقل ملوحة من غيرها، بيد أن الذي حدث هو العكس تماما. و في وقت مبكر في عام 1905 كان المهندس المقيم في بورتسودان النقيب هنري كيلي يستكشف في مصادر المياه في التلال القريبة من المدينة حين اكتشف  جدول ماء ( اسمه خور اربعات). كان بمقدور ذلك الخور أن يوفر الماء العذب لمدينة بورتسودان بل و يكفي حاجة  مشروع زراعي. كان كيندي يصر علي أن بورتسودان تحتاج يوميا ما لا يقل ألفين طن من المياه العذبة يوميا، بيد أن خططه لإنشاء خزان أو سد مع بناء خط للأنابيب لمستودع كبير قوبلت بالرفض بسبب ارتفاع التكلفة.

و في 1911 قدم كيندي خطة أخري أقل كلفة من سابقتها فقوبلت بالرفض مجددا.
من المفارقات العجيبة أن تقديرات كيندي لاحتياجات المدينة من المياه عدت  صحيحة و دقيقة و عمل باقتراحاته بعد سنين من تقديمها، و بالتحديد في عام 1921، أي بعد مغادرته البلاد إلي مصر. كتب المهندس هربرت عن أسفه لإهمال و تجاهل مقترحات كيندي  من أجل حل مشكلة المياه في بورتسودان، و تحسر علي عدم تنفيذها في وقتها، إذ أن كل الحلول المؤقتة و الجزئية التي قامت بها الحكومة قد كلفت في الواقع أكثر مما كانت ستكلفه مشروعات كيندي المقترحة.

و بين عامي 1916 و 1920 ساءت العلاقات بين كيندي و أعضاء الإدارة الحكومية أكثر فأكثر. من أشهر الخلافات التي دخل فيها كانت بينه و بين سير ميردوخ ماكديونالد مستشار وزارة الأشغال العامة المصرية، و كان الأخير يعترض علي قيام خزان سنار علي النيل الأزرق بدعوي أن قيام هذا السد سيضر بمصر. و وقف إلي جانب كيندي في هذا الخلاف وليام وليكوكس و هو  المهندس الذي بني سد أسوان الأول. ولد هذا الخلاف قضايا قانونية اتهم فيها كيندي بالتشهير الجنائي و اشانة السمعة، فهجر كيندي مصر و آب إلي بلاده. مات كيندي في عام 1926 عن عمر لم يتجاوز الواحد و الخمسين عاما.

يا تري لم كانت رحلة كيندي المهنية عاصفة بذلك الشكل و هو الذي كان محط إعجاب و احترام كل من عمل معه. كان متوافقا جدا مع كتشنر بيد أن وينجت لم يكن يستلطفه، و كان اختيار كيندي لموقع "الشيخ برغوث" (بورتسودان) كميناء للبلاد هي القشة التي قصمت ظهر البعير، و دقت آخر مسمار في  نعش العلاقة بينهما. 
في عام 1950 طلبت ابنة كيندي من مؤرخ مشهور هو مايكيل بارينجتون أن يكتب سيرة أبيها الذاتية، أملا في إنصاف الرجل و إعادة حقه الأدبي. طلب المؤرخ منها السماح له بالتفتيش في الغرفة العلوية (المخزن) بمنزل كيندي بيد أنه لم يجد كثيرا من الوثائق الهامة التي تمكنه من تسطير كتاب كامل، بيد أنه نقل ما عثر عليه من وثائق لأرشيف السودان في جامعة ديراهام البريطانية حيث بقيت هنالك (و استفاد منها كاتبنا الطبيب في هذا المقال. المترجم). كان ذلك المؤرخ يؤكد أن كيندي قد ظلم ظلما بينا و صار دوره في بناء مدينة و ميناء بورتسودان نسيا منسيا، بل إن إنجازات كيندي قد نسبت زورا و بهتانا إلي سير وينجت!

No comments:

Post a Comment