وجد الباحثون نقصا ملحوظا في معدلات حدوث سرطان المعدة وزيادة كبيرة في معدلات حدوث أمراض سرطانية بعينها (مثل سرطان القولون و الثدي و المعثكلة /البنكرياس وغدة البروستاتا) عند اليابانيين الذين هاجروا لأمريكا واتخذوها وطنا لهم منذ عقود طويلة خلت حيث استقروا في كاليفورنيا وهاواي، وذلك مقارنة بما هو حادث عند اليابانيين الذين لزموا موطنهم الأصلي. و تثبت هذه المعلومة العلمية المحققة أن العوامل البيئية ومناخ العيش وطرق الحياة تلعب دورا كبيرا في إحداث (أو عدم إحداث) مرض ما عند أي شعب من الشعوب. غير أن هذا التفريق بين الشعوب الأصلية التي بقيت في موطنها الأصلي ومن هاجر منها واستقر منذ أجيال في بيئة مغايرة لم يطبق في البحوث التي أجريت علي الأمريكيين من أصل أفريقي، فكثيرا ما نجد أن الدراسات التي أجريت علي هؤلاء لا تفرق كثيرا أو قليلا بين الأميركيين السود الذين أتي بهم من موطنهم في أفريقيا – عنوة و اقتدارا- لأمريكا قبل نحو أربعة قرون من الزمان وبين أولئك الذين قدموا إليها – قرعة و اختيارا- كلاجئين سياسيين أوإقتصاديين وكأفراد وجماعات في القبيلة السودانية الجديدة المعروفة ب "اللوتراب" التي ينتهي نسبها إلي القرعة السنوية الخاصة بالتنوع الإثني المشهورة تحببا ب "اللوتري"، وكطلاب سابقين طاب لهم العيش والعمل حيث أبتعثوا، فآثروا البقاء في "وطنهم الجديد" بذرائع شتي ليس هنا مجال الخوض فيها. وكثيرا ما ينظر البحاثة من الأمريكيين البيض إلي "الأمريكيين من أصل أفريقي" علي أنهم نسيج واحد متجانس بحكم وحدة اللون والشكل الخارجي دون اعتبار للتباين الثقافي الكبير بين المهاجرين من مناطق مختلفة ليس بينها رابط من دين أو لغة أو ثقافة أو نمط تفكير. فالفرق شاسع بين ثقافة الأمريكيين السود (القاطنين في أمريكا منذ أكثر من أربعة عقود) وبين ثقافة الشعوب السوداء التي وفدت لأمريكا الشمالية من أمريكا الجنوبية وجزر الكاريبي وأفريقيا التي تدين بالإسلام أو المسيحية أو كريم المعتقدات. لم تنشر إلا دراسات قليلة عن الاختلافات في نسبة حدوث مرض معين بين السود الأمريكيين (الذين جلب أسلافهم كعبيد للبيض) و بين السود المهاجرين لأمريكا حديثا. فلقد وجد مثلا أن معدل حدوث سرطان عنق الرحم عند النساء السود من المهاجرات حديثا تفوق معدلاتها عند سود النساء من سكان أمريكا "الأصليين". و هذا يتماشي مع ما هو معلوم من أن معدلات حدوث مرض السرطان – بصورة عامة- عند السود في أمريكا يفوق معدلات حدوثه عند غيرهم من سكان أمريكا.
وفي تنقيبي عن ما نشر في "الأدب العلمي" عن المهاجرين في بلاد الله الواسعة، وجدت مقالا قيما لباحث سوداني من قسم العلوم الغذائية بجامعة تسكيجي في ولاية ألباما هو عصام المبارك (مع آخرين) بعنوان "مقابلات مع السودانيين الأميركيين:وجهة نظرهم في النظم الغذائية والغذاء والسرطان" نشر في عام 2005 م في مجلة "الطب الوقائي" وهي دورية علمية طبية مرموقة جدا. ترتكز تلك الدراسة الوصفية النوعية (ليس بالمعني المبتذل الذي أشار إليه بطلنا المصطفي قبل شهور علي صفحات "الأحداث") علي نتائج مقابلات أجراها في مدينة ابيرن بألباما الباحث و وزملاؤه مع ثمانية عشر من السودانيين الحاملين للجنسية الأميركية (أو قل الأميركيين من أصل سوداني) وكانوا من الرجال والنساء الذين تراوحت أعمارهم بين 22 و 45 عاما.
تمحورت تلك المقابلات حول وجهات نظر هذه المجموعة المختارة من المهاجرين الجدد القادمين من أفريقيا، ليسوا كعبيد مقيدين محشورين في سفن الشحن كما هو الحال قديما، و إنما كمهاجرين متعلمين ذوي ثقافة "عصرية" يحملون إرثا تلبدا وتاريخا عريضا، و يتحدثون لغة مختلفة ولهم آراؤهم المسبقة في عديد الأمور خاصة فيما يتعلق بالعقائد وطرق الحياة وثقافة الطعام والتغذية و علاقة كل ذلك بمرض السرطان(ذلك الاسم المخيف المرعب). لقد أثبت العلماء أن ذلك المرض الفتاك ينشأ من تفاعل بين خليط من استعداد وراثي و عوامل بيئية تشمل (ولا تقتصر علي) نوع الغذاء المتناول ونمط الحياة التي يعيشها الفرد (مثل ممارسات شرب الخمر وتدخين التبغ) والتعرض لملوثات بيئية وغير ذلك.
قام الباحث عصام المبارك (وزملاؤه) بعمل مقابلات شخصية لمجموعة من رجال سودانيين، تلاها بجلسة منفصلة مع نساء سودانيات (مراعاة للتقاليد)، وكانت كل مجموعة تتكون من ثلاثة إلي ستة أفراد. كانت تلك المقابلات تصور وتسجل بالفيديو حتى يدرس فيما بعد مدي حماس المتحدث (المتحدثة) وتعابير وجهه (وجهها) ولغة جسده (جسدها)، تلك اللغة الصامتة (إن صح التعبير) التي تدل علي استجابات غير مسموعة ذات مضامين ومعاني هامة.
من الأسئلة التي وجهت لهؤلاء السودانيين الأمريكيين طرح سؤال عن ما يخطر ببال الفرد منهم عند سماعه لكلمة "سرطان". كانت إجابتهم هي "الموت و الخوف والقتل", وصف أحدهم الخوف من السرطان فقال: " إنه الرعب من "شئ" مجهول الأصل... "شئ" غامض ومعذب ويصيب سئ الحظ منا. ليس له من علاج وهو من الله". ربط أغلب الرجال بين السرطان وبين التلوث والمواد الكيميائية الحافظة للطعام واستعمال قاتلات الهوام ومبيدات الأعشاب الضارة.
اتفق معظم من سئلوا علي أن مصدر السرطان مجهول وغامض. قال أحدهم: " لقد مات عمي بمرض السرطان، وكان الثاني بين أفراد العائلة الذي يموت بهذا المرض خلال عامين. لذا أصفه بالمرض الغامض. لقد توفيت أختي الكبيرة بسرطان القولون، ثم لحق بها عمي بعد ستة أشهر فقط ".
ربط معظم من شاركوا في البحث بين منشأ السرطان وما يتناوله المرء من غذاء إذ قالوا إن للسرطان علاقة بتناول الأدوية و بأكل اللحم بصورة مفرطة، ووجود الكيماويات في الغذاء وعلب الطعام التي انتهت صلاحيتها. أشار بعضهم لإضافة "محسن الخبز" برومات البوتاسيوم كمسبب للسرطان، خاصة وأن هذا الخبز يؤكل ثلاثة مرات في اليوم.
كانت مشاعر السودانيين و تعابيرهم تنم عن إيمان عاطفي عميق بأن للسرطان علاقة وثيقة بالمخلفات النووية والملوثات الكيميائية من المصانع وبقايا المبيدات في الخضروات و الفواكه، وكذلك بضغوط الحياة وبالوراثة أيضا.
وفي معرض إجابتهم عن سؤال عن ما إذا كان بالإمكان الوقاية من السرطان قال معظم من تمت مقابلتهم إن ذلك ممكن عن طريق تعليم الناس وسائل الوقاية من المرض وبالتعود علي غذاء صحي خال من الملوثات، غني بالألياف وقليل الدسم. بيد أن عددا صغيرا أجاب بأن الوقاية من السرطان غير ممكنة، إذ أن ذلك المرض يصيب فقط "غير المحظوظين من الطيبين الحساسين". ذكرت احدي النساء أن السرطان أمر محتوم لا مناص منه عند تقدم السن، وأضافت أخرى أن المرض ناتج من سوء الحظ ومن مصاعب الحياة التي يصعب أو يستحيل التحكم فيها.
و أجاب الرجال والنساء في المجموعات التي تمت مقابلتها علي أن للغذاء دورا هاما في إحداث السرطان، وبخاصة عند تناول الأغذية المعدلة وراثيا والأطعمة المعلبة والمأكولات والمشروبات التي تضاف إليها مواد كيميائية حافظة. أكد نصف عدد الرجال أن مطعومات بعينها مثل المشروبات الغازية (التي يقولون أن بها موادا حافظة كثيرة) والقمح المستورد، ولحم الأبقار التي حقنت بهرمونات النمو، والأغذية التي رشت بمبيدات الهوام، كل ذلك مما يسبب السرطان إذ أن هذه المطعومات قد "تم الغش و التلاعب" فيها. بينما أكدت النساء أن تكرر تناول أطعمة بعينها (و ليس كل الأطعمة علي وجه الإطلاق) هو سبب السرطان، وضربن لذلك أمثلة شملت الأطعمة المقلية والإفراط في الطعام المصنع والمدخن والأطعمة عالية الدهون المشبعة وكذلك الأطعمة السريعة التحضير. قالت احدى النساء إن تخزين الطعام في مغلف بلاستيكي مسبب أكيد للسرطان، بينما ذكرت أخري أنها سمعت أن الإفراط في أكل البروتينات (بتناول اللبن) يسبب السرطان.
تطرقت الأسئلة للعوامل التي تؤثر علي اختيار الفرد للطعام فكانت الإجابات تدور حول دور الفقر في اختيار الأطعمة، إذ أن الفقراء عادة ما يتناولون طعاما يغلب عليه النشويات والفول (لرخصهما). كذلك ذكر هؤلاء أن للمعتقد الديني والثقافي أثرا كبيرا علي اختيار المرء للأنواع المتباينة من الأطعمة، وذكروا أيضا أن اختيار الطعام يتأثر بالدين والقبيلة والمنطقة وفصل السنة والإعلانات التجارية عن السلع الغذائية، والمركز الاجتماعي، ولم ينسوا ذكر تأثير المستعمر التركي والمصري في إدخال نوعيات متباينة من المطعومات التي لم تكن معروفة في السودان من قبل مثل الفلافل والمحشي. اعترف الرجال في المقابلات بأن للمرأة القدح المعلي في اختيار ما يأكله أفراد الأسرة، إذ أن الرجال (كما قالوا) يشترون من المواد الغذائية فقط ما تطلبه المرأة.
بالنسبة للرجال فإن مصادر المعلومات عن التغذية والطعام كانت مستمدة أساسا من المدرسة، بينما يعتمد المتزوجون علي نسائهم كمصدر للمعلومات عن الغذاء الصحي، بينما تعتمد النساء في معلوماتهن علي ما سمعنه من جداتهن من عادات غذائية أكثر من اعتمادهن علي مصادر المعلومات الحديثة.
رصد الباحثون قائمة بمكونات الوجبات اليومية التي يفضلها السودانيون الأمريكيون، وحافظ هؤلاء علي عادة شرب الشاي باللبن صباحا مصحوبا باللقيمات أو البسكويت، ويعقب ذلك طعام الإفطار والذي يتسيده الفول (المصري) مع الجبن الأبيض والطماطم والبصل وزيت السمسم ( و هذا الزيت مهم جدا،كما ذكر الباحثون!). حل العدس في المرتبة الثانية ثم تلاه الكبد والبيض مسلوقا ومقليا بالزيت، والخبز(الفرنسي أو العربي) ويختم الإفطار بشاي اسود شديد الحلاوة. أما الغداء فيتكون من سلطة خضروات (تحتوي علي الخيار والطماطم والبصل والجرجير) و "ملاح" من اللحم والبامية أو الرجلة/السبانخ أو الملوخية أو القرع أو الفاصوليا أو الباذنجان مع الخبز. كذلك يشمل الغداء تحلية من الكرامل أو الكستارد أو الجلي أو الفاكهة الطازجة (يفضلون الموز) ثم يختم الغداء كما الإفطار بشاي اسود شديد الحلاوة.
قرر كل الذين أجابوا علي أسئلة البحث أن التقاليد الثقافية هي العائق الرئيس أمام تغيير العادات الغذائية (السودانية) السائدة مثل الإكثار من زيت القلي، بينما قال نحو سبعين بالمائة من هؤلاء أن المال والجهل (أو قلة التعليم) هو عائق آخر أمام تغيير العادات الغذائية، بينما رأي نحو سبعة وعشرون في المائة من الذين أجابوا علي أسئلة البحث أنه لا توجد عوائق تذكر أمام تغيير تلك العادات.
تطرق البحث أيضا إلي آراء السودانيين الأمريكيين في طرق طهي الطعام المختلفة وهي تتلخص في القلي في الزيت، والطبخ علي نار هادئة في المرق لعمل "ملاح"، والغلي والتخمير والشوى. ذكر أحد السودانيين الأمريكيين أنه لم ير في حياته عملية طبخ الخضروات بالبخار الحار، كما أنه أضاف بأن الطهي باستعمال الفرن غير شائع عندهم،ولا تقوم بممارسته غير طبقة صغيرة من الأغنياء.
ومن أعجب ما جاء في البحث أن استطلاع آراء السودانيين الأمريكيين أبان أنهم علي وجه العموم لا يقرئون مكونات الأغذية التي يبتاعونها، وأنهم يفضلون تناول الطعام المنزلي ولا يلجئون كثيرا لمطاعم الوجبات الأميركية السريعة، بيد أن صغارهم يحبونها و يرتادونها كثيرا.
خلصت الدراسة (وهي الأولي من نوعها) إلي تبيان آراء شريحة مختارة من السودانيين الأميركيين حول موضوعات متشابكة ومترابطة تتعلق بالطعام والغذاء وعلاقتهما بمرض السرطان. وتوضح نتائج الدراسة العوائق التي تقف أمام تغيير العادات الغذائية عند هذه الفئة من المهاجرين السود كي تتماشي مع توصيات معهد السرطان القومي الخاصة بالأغذية الصحية.
No comments:
Post a Comment