معلوم لدى غالب من أتيحت لهم فرصة التعامل مع الحاسوب، من عوام الناس وخواصهم أن بعض النصوص تكتب بطريقة تتيح لك فرصة الدخول من الموضع (أو الموقع) الذي تقرأ منه لتدلف إلي موضع آخر بضغطة صغيرة علي الماوس. فمثلا إن كنت تقرأ في موسوعة ما عن السودان مثلا، ثم صادفتك كلمة "الخرطوم"و تريد معرفة معلومات اعمق عن "الخرطوم" فإنه بمقدورك ترك ما كنت تقرأ فيه و أن تتحول إلي موقع آخر ترد فيه الكلمة التي تود معرفة المزيد عنها. ذكرت كل ذلك و أنا اتابع (بإهتمام ملحوظ) كما جرت عبارة البيانات الرسمية ما يكتبه بعض (أساتذتنا) من كتاب الأعمدة و غيرهم من الكتبة الراتبين الكرام. أضرب لهذا مثلا بكاتب في مواقفه السياسية تأرجح و في علاقاته الإجتماعية نظر، بيد أنني اعجب بروح السخرية التي تنضح (و لا أقول تطفح) من بين ثنايا ما يسطره من مهجره البعيد (قديما) ثم القريب (حديثا). و سأتخذ من نوع كتابات ذلك الرجل الكاتب – دون تعمد الهجوم عليه- وسيلة لشرح ما أنا بصدده.يكتب ذلك الرجل مثلا عن الأحوال الصحية بالسودان، و لا يستغرق الأمر منه اكثر من سطر أو سطرين يوجز فيها الأمر برمته، لكنه "يشخصن الأمر" فيحدثنا عن حالته الصحية خاصة و التي يعزوها دوما لنوع الحياة (الكاملة الدسم) التي إختارها طائعا مختارا، و كيف أنه ضاق ذرعا بفريق الأطباء الذين مر عليهم طول سنين والذين حار دليلهم في الوصول لتشخيص دقيق لحالته، و مضوا – مكبين علي وجوههم- يجربون فيه و عليه كل أنواع الأدوية دون أن يبلغ صاحبنا مرامه من الصحة و العافية. تيقن صاحبنا من أن حالته الصحية تسوء و لا تنصلح، فنصحه خلصاؤه بعد إنفضاض سامر "جلسة إستماع" مع تباشير يوم جديد كاد أن يبزغ فجره بأن يشد الرحال إلي أرض الكنانة فإن بها أطباء بارعون لا يضام عندهم مريض ابدا. و عند ورود كلمتي "أرض الكنانة" يشرح الرجل لقراءه لم سميت مصر بأرض الكنانة، و لا ينس أن يذكرنا بأن هبوط تلك البلاد لم يعد كما كان سهلا ميسرا، بل يتطلب استخراج تأشيرة دخول عصية المنال! و مضي يعدد المصاعب الجمة التي صادفها و المعانة التي صبر عليها حتي قيض الله له – صدفة هي احلي من كل ميعاد- زميلا عزيرا درس معه قديما في كلية غوردون التذكارية... و هنا يتوقف صاحبنا ليفيدنا بمعلومة لم تسبق إذاعتها، ألا و هي أنه زامل في ذلك الصرح التعليمي العتيد ثلة من العظماء يصف لنا مآثرهم و يعدد أمثلة لهم و يخبرنا بالمواقع الخطيرة التي تسنموا قيادتها حينا من الدهر، و عن ما فعل بهم هذا "الزمان الردئ" و عن شظف عيشهم و تنكر الإخوان الميسورين لهم، و عن زهدهم في الحياة و تمنيهم ليوم الرحيل عنها... سمي صاحبنا أحد اولئك "الأفذاذ المتفردين" و قال أنه عمل زمانا مديرا لمصلحة البريد و البرق، و مضي يسرد تاريخا موجزا (لحسن الحظ) عن تلك المصلحة (التي لنا فيها مصلحة و اي مصلحة) و كيف أنها صارت الآن كما مهملا و حالها لا يسر عدوا و لا صديقا، فالناس استعاضت عن خدماتها بالبريد الإليكتروني و هو ذلك الإختراع الذي...و الذي... و شرح لنا طرفا من معلوماته عنه!و بالعوده لسفره بالطائر الميمون لأرض الكنانة ذكر لنا الرجل أنه تمعن في الخيارات الكثيرة التي وضعها أمامه موظف شركة الطيران التي يتعامل مها رئيس تحرير الصحيفة التي يكتب لها، و كيف أن ذلك الرئيس – و تحت الحاح الكاتب المتواصل- لم يجد مفرا من أن يعطيه بعضا من مستحقاته المتراكمة علي الصحيفة في شكل تذكرة إكرامية مفتوحة كان قد حصل عليها من جهة لا يجوز البوح بإسمها (الآن). اجال صاحبنا النظر في خطوط الطيران التي تطير إلي القاهرة من الخرطوم، و جلها من الخطوط التي يشهد لها الكافة بالإنضباط و الكفاءة و حسن الخدمة، بيد أنه وجد عقله و لسانه يطالبان الموظف بحجز التذكرة علي الخطوط السودانية و ليس غيرها... كيف لا و السودان و حبه يجريان منه مجري الدم، و اذناه تسمعان دون إنقطاع النداءات المتكررة بأن يكون "سوداني"، و كيف لا و الخطوط السودانية هي من أقدم خطوط الطيران الإفريقية... و بالطبع كتب سطورا كثيرة عن تاريخ تلك الشركة المجيدة التي لا تغيب شمسها المشرقة ابدا!يعود كاتبنا – و العود أحمد- إلي القاهرة فيذكر في حسرة بائنة أنه لاحظ بونا شاسعا و فرقا لا تخطئه عين بين قاهرة اليوم و القاهرة التي عرفها قبل عقود طويلة، و يذكرنا بأول مرة قدم فيها لتلك المدينة ذات القباب (و ذكر لنا رقما) حين سافر مع والدته المريضة لعرضها علي نطاس بارع سارت بذكره الركبان في السودان... و من عجيب الصدف – كما يقرر الرجل- أن يوم رحليها الفاجع كان قد صادف ذات يوم أن قبر السيد الجليل و الطائفي العظيم، و الذي شهد عصر دفنه اكبر تظاهرة بكائية شهدتها العاصمة و ضواحيها، مما يعد –حسب منطقه- دلالة صدق حبها المخلص وولائها الصادق لزعيم تلك الطائفة الناجية بإذن الله.يعود الكاتب فيصف لنا القاهرة وصف خبير و يعدد في إيجاز بليغ بعضا من ملامحها القديمة و الجديدة أيضا، ثم يمتعنا بتفاصيل تفاصيل يوم لقاءه بالنطاس البارع الذي نصح بمقابلته، و كيف أن ذلك الطبيب نهض من مقعده الوثير مصافحا، بل معانقا له، هش له و بش، و كان يداوم تكرار القول بأن "البركة قد حلت علي المحروسة، و أنه كان يعجب من أتي كل ذلك النور الذي هل علي المدينة فجأة، و زال عجبه الآن! اصاخ النطاس المصري السمع جيدا لشكوي صاحبنا، و كان يهز رأسه بإهتمام عند كل كلمة يتفوه بها مريضه، ليس كأولئك "المتعنتظين" في الخرطوم – حسب قول الصحافي المريض- و الذين يبدأون كتابة الروشتة (أو "الوصفة الطبية" كما يصحح لنا خطأنا اللغوي الفاحش) و المريض يقبل عليهم و قبل أن يتمكن حتي من الجلوس، و قد يتيح له الطبيب "المتعنتظ" فرصة الشكوي، بيد أنه يستمع اليها بنصف بال و نصف أذن، و يدفع له بالروشتة – دون أن يرفع رأسه ليراه- لحظة أن ينتهي من إكمال شكواه المرضية. و تكون الروشتة عبارة عن قائمة لسبع أو ثماني من الأدوية القوية الخطرة لا بد أن أحدها سيفيدك – إن لم يقتلك- فشعارهم الأزلي هو " "الدواء الذي لا يقتلك لا بد سيقويك"!طمأننا الرجل أنه – بحمد الله- قد نجا من أولئك القوم الظالمين و هو الآن بين يدي ذلك الطبيب المصري البارع البشوش. يكرر الصحفي في مقاله الإسبوعي أن ذلك الطبيب كان يستمع لشكواه و علي وجهه الطيب ابتسامة تشجيع وود، و كان يهز رأسه بين الفينة و الأخري للتدليل علي أنه يتابع الشكوي المرضية و يتفهمها. ما أن اكمل صاحبنا شكواه حتي تحولت ابتسامة النطاس البارع لضحكة مجلجلة سرت عدواها لمريضنا الصحفي حين نطق النطاس بالقول الفصل: " يا راجل... معندكش حاجة... هم شوية غازات مش اكتر". لم يصدق الرجل ما سمعه، فطالب بمعرفة المزيد. لم يزد النطاس علي نصيحته لصاحبنا بأن لا يقرب الثوم وأم فتفت بالشطة و الدكوة و أن يهجر (قرش) البصل الأخضر و إزدراد صحون الفاصوليا و اللوبيا التي ظل يعشقها صاحبنا منذ الصغر في قريته الصغيرة تلك الوادعة، الواقعة علي النيل. طمأن الطبيب صاحبنا بأنه سيصبح "زي الحصان" إن التزم الوصايا الغذائية التي اعطاه إياها. سأل الرجل و هو يتحسس جيبه عن ما يجب دفعه، فرد عليه الطبيب و هو يربت علي كتفه: " فلوس؟ فلوس ايه يا راجل؟ يا راجل نحن إخوات..." و مضي به يودعه لباب غرفة الكشف و يدس في يديه كرت به إسم الطبيب و شهاداته الكثيرة و عنوانه و هواتفه. من باب "رد الجميل" لم ينس كاتبنا أن يبرنا بإسم ذلك "الطبيب الإنسان" و عنوانه و هواتفه مع التوصية المشددة بأن ذلك النطاس البارع محب للسودانيين و مستعد لخدمتهم في أي وقت، فلا تدعوا هذه الفرصة الثمينة تفوتكم!
No comments:
Post a Comment