بقلم: روديارد كبلنج
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
نبذة قصيرة عن المؤلف: ولد الكاتب البريطاني جوزيف روديارد كبلنج (1865- 1936) في بومباي بالهند. كتب قصصا للكبار والصغار وأشعارا كثيرة خلدت أسمه بين مشاهير الأدباء، ووصفه هنري جيمس بالعبقري، بينما وصفه جورج أورويل بنبي الإمبريالية البريطانية. يعد كبلنج أول وأصغر بريطاني ينال جائزة نوبل في الأدب،حيث منحت له عام 1907. للمزيد عن هذا "الاستعماري العتيد" اقرأ إن شئت هنا
..............
النص: كانت كرة لعبة البولو العتيقة مَبْعُوجة ومقطعة ومشققة، وكانت موضوعة في رف المدفئة مع عدد من غليوناتي التي كان خادمي الشخصي (إمام دين) يقوم بتنظيفها لي.
سألني الخادم باحترام فائق: " هل سعادتكم – طال عمركم - بحاجة إلي الكرة هذه؟"
لم تكن لكرة البولو تلك أي أهمية خاصة يمكن أن يدركها الخادم!
"لا أريد الكرة لنفسي – طال عمركم- بل أريدها لابني الصغير. لقد رأى هذه الكرة وتمنى أن يلعب بها".
لم يكن بحاجة ليذكر لي أنه لا يريد تلك الكرة لنفسه، فهل من عاقل سيتهم ذلك العجوز السمين بأنه سيلعب البولو!
حمل تلك الكرة القديمة المقطعة إلى الفرندا... وسرعان ما سمعت صيحات فرح مجلجلة وأصوات أقدام صغيرة تقفزعلي الأرض. تلت ذلك أصوات خبطات سريعة بالكرة. لا ريب أن الابن الصغير كان ينتظر بالخارج لحين يظفر والده بذلك الكنز الثمين. بيد أن السؤال الذي حيرني فعلا هو: كيف تمكن ذلك الطفل من رؤية كرة البولو تلك؟
في اليوم التالي وعلى غير العادة عدت من المكتب لمنزلي باكرا بنحو نصف ساعة ففوجئت بطفل صغير سمين عليه قميص أصغر منه مقاسا لا يكاد يغطي نصف بطنه. كان يجوس في الغرفة وأصبعه في فمه وهو يتفحصمجموعة من الصور. لا شك أنه ابن خادمي (إمام دين).
لم يكن له الحق – بالطبع- في أن يكون في غرفتي، لكنه كان مستغرقا جدا في تفحصه لما في الغرفة واكتشاف أسرارها لدرجة أنه لم يلحظ وجودي في مدخلها. خطوت داخل الغرفة وصفقت بيدي مفزعا إياه لدرجة كادت تصيبه بالصرع. تهاوى علي الأرض وهو يلهث. فتح عينيه ثم فغر فمه واسعا. كنت أعلم ما سيحدث... أطلق ساقيه للريح وهو يصرخ صرخة داوية سمعها جميع من كان في جناح الخدم. ناديت بأسرع من أي نداء سبق أن استدعيت به خدمي من جناحهم. في نحو عشر ثوان كان (إمام دين) يقف أمامي في غرفة الطعام. تلى ذلك سماعي لأصوات ضراعة ونحيب مكتوم، ووجدت إمام دين يوبخ المذنب الصغير الذي كان يستخدم قميصه الصغير كمنديل يجفف به دمعه المنهمر.
قال (إمام دين) وهو يلبس لبوس الحكيم: "هذا الصبي شقي فاسد الشخصية. سينتهي به المطاف حتما يوما ما في "الجيل خانة" (السجن) لطبعه السيئ وخلقه الرديء". تلى ذلك سيل من الصرخات في وجه الصغير وسيل آخر من الاعتذارات الحارة لي.
قلت له مطمئنا: "ليتك تخبر الصبي أن "الصاحب" * ليس بغاضب، وتذهب به بعيدا".
نقل (إمام دين) رسالة الغفران تلك إلى المذنب الصغير، والذي كان قد بدأ في جمع ولف كامل قميصه الصغير حول رقبته. توقف الصبي عن النحيب واتجه مع أبيه نحو الباب. وفي طريقه للخارج قال لي (إمام دين) إن اسم ابنه (وكأن اسمه جزء من الجريمة) هو محمد دين وهو "بدماش "**. أمن الصبي من العقوبة فلملم أطراف شجاعتهوالتف حول ذراعي أبيه وقال في نغمة حزينة: "صحيح أن اسمي محمد دين أيها التاحب (بطريقة نطق الأطفال لكلمة الصاحب) بيد أني لست بدماش. أنا رجل".
بدأت من ذلك اليوم معرفتي بمحمد دين. لم يأت أبدا مرة أخرى لغرفة طعامي، لكني كنت أراه علي "أرض محايدة" في الحديقة ونتبادل التحايا من شاكلة: "تلام تاحب" (أي سلام صاحب)"، و"سلام محمد دين". كنت يوميا عند عودتي للبيت من المكتب أرى ذلك الطفل السمين في قميصه الأبيض الصغير يقفز من بين الشجيرات التي كان يختبئ بينها، والتي كان حصاني يقف تحت ظلالها، ويحييني الصبي بتحيته المعتادة وأرد عليها بمثلها.
لم يك لمحمد دين من أصحاب. كان يتقافز في أرجاء البيت الكبير ويدخل ويخرج بين شجيرات الخروع وحيدا، ثم يختفي في غموض. اكتشفت بالصدفة ذات يوم بعض ما كان يفعله ذلك الصبي. كان قد حفر حفرة صغيرة لكرة البولو وغرس حولها في شكل دائرة ستة من الأزهار الذابلة. وحول تلك الدائرة رسم مربعا ووضع عليه بقايا طوب أحمر ووضع بين كل طوبة وأخرى قطعة من الصيني المكسور وأحاط كل ذلك بسور طيني. سألت العامل المسئول عن ري الحديقة عن الذي يفعله المهندس المعماري الصغير بحديقتي، فأجاب بأنه "لعب أطفال ليس إلا" ونفي أن يكون لذلك البناء الصغير تأثير مشوه علي حديقتي.
يعلم الله وحده أنه لم تكن لي أدنى رغبة في ذلك الوقت أو بعده في أن أمس ما بناه الصبي، بيد أنني قمت بجولة في الحديقة ذات مساء لأجد أن كل ما بناه الصبي قد أزيل. في صباح اليوم التالي وجدت محمد دين ينتحب بصوت خافت فوق أطلال ما بناه. كان أحدهم قد قال له في قسوة أن "الصاحب" غاضب عليه جدا لإفساده الحديقة وقام بتحطيم كل ما بناه. عمل الصبي لنحو ساعة وهو يحاول إصلاح ما أفسده وليزيل أي معلم لجريمته. عند عودتي للبيت من المكتب حياني بوجه حزين ونبرة كسيفة مرددا: " تلام تاحب". قمت بتحريات سريعة، كان نتاجها أن أخبر (إمام دين) ابنه بأن "الصاحب" قد سمح له باللعب في الحديقة متى وكيف شاء. فرح الصبي أيما فرح وبدأ من فوره في اللعب مجددا و التخطيط علي أرض الحديقة لمعالم تفوق ما سبق أن بناه حول كرة البولو تلك.
ظل الصبي الممتلئ الجسم ولشهور عديدة مستغرقا في لعبه بالتراب وبين شجيرات الخروع، مصمما لقصور عظيمة وبنايات فخمة من الزهور والأغصان الذابلة التي يقذف بها العامل الذي يعتني بالحديقة، ومن قطع الزجاج المكسورة، ومن الريش الذي أتخيل أنه نتفه من دجاجي... كان دوما معتزلا للناس يعيش دونما صاحب أو رفيق.
عثرت يوما علي صدفة بحر منقطة بألوان عديدة زاهية. قلت في نفسي أن محمد دين لا شك صانع بها شيئا جميلا خارقا للعادة. لم يخذلني الصبي. فكر مليا لساعة أو نحوها ثم طفق يشدو بأغنية مرحة. بدأ في التخطيط فوق التراب لقصر عظيم طوله ياردتان وعرضه ياردة واحدة. لم يكتمل ذلك القصر أبدا.
في اليوم التالي لم أجد لمحمد دين أثرا. لم أسمع "تلام تاحب" عند عودتي بعد انتهاء الدوام، وكنت قد اعتدت عليها لدرجة أن غيابها أزعجني جدا. أخبرني (إمام دين) أن الطفل قد أصيب بحمي احتاج معها لدواء (كونين) ***. تم عرضه على طبيب إنجليزي وأعطي الدواء.
قال الطبيب بعد أن فحصه: "هؤلاء الأطفال الأشقياء ليست لهم مقاومة أو طاقة".
بعد أسبوع حدث ما كنت أخشاه. قابلت في الطريق لمدافن المسلمين (إمام دين) برفقه صديق له وهو يحمل بين ذراعيه في كفن أبيض كل ما تبقى من محمد دين الصغير.
........................
* الصاحب هو لقب كان يطلقه الهنود علي الأوربيين
** بدماش هو الشخص سئ الخلق
*** كونين هو دواء مر الطعم يعالج الملاريا ، عرف في السودان بالـ (كينا)
No comments:
Post a Comment