معلوم أن بعض أفراد قبائل شمال السودان قد اشتهرت بالشغف بالهجرة و حب السفر إلي خارج ربوع الوطن العزيز، و منهم من وصل حتى الأراضي الجيدة مثل ساتي ماجد الدنقلاوي الذي يعد أول سوداني تطأ قدميه الأراضي الجديدة. و كذلك يشتهر الشايقية بالإكثار من ذكر "وجع البعاد" و السفر و الغربة و بالمبالغة في التغني بالحنين و الشجن والألم و الندم علي السفر و مفارقة الأهل و الأحباب! و من ذلك ما عنونا به هذه السطور من أن الشاعر لا رغبة له في السفر، مع أنه "مسافر و الفراق لحظاته صعبة"! و إلي وقت ليس بالبعيد كان الجعلي الذي يسافر لغرب البلاد (أو "الصعيد" بزعمهم) يعد من الميئوس من أوبتهم لديارهم تارة أخري، خاصة إن أصابه كيبوبيد بسهم من سهامه و تزوج هنالك. غير أن كل ذلك في نظري هو من قبيل الاستثناء، و القاعدة عندي، و الله أعلم، أننا قوم – علي وجه العموم- لا نحب الأسفار و لا ركوب المخاطر و نمج التجريب و الدخول في مغامرات محسوبة أو غير محسوبة. و لم يهاجر الناس في العقدين الأخريين من السودان زرافات ووحدانا إلا عندما ضاق العيش أو تزايدت الطموحات أو اختفي – أو ضاق- هامش الحرية. و في أشعارنا الغنائية الكثير من الإشارات الذامة للسفر و الغربة (حيث اليوم يمر زي السنة، و الهم يبين همين) و لعل أشهرها "سفري اللي سبب لي أذايا"، و هنالك المزيد.
كل ما سبق هو بمثابة "مقدمة" صغيرة لموضوع علمي مثير (علي الأقل بالنسبة لي) عن تأثير الوراثة و المورثات (الجينات) علي سلوك البشر من حيث حبهم (أو بغضهم) للسفر و الترحال و المغامرة و ركوب المخاطر. و رغم أنه من المسلم به أن أي سلوك بشري هو نتيجة حتمية لتفاعل عناصر المورثات مع البيئة المحيطة، إلا أنني علي رأي الحكمة الشعبية التليدة القائلة بأن "اللي في والدك يقالدك". أنظر كيف نفذت تلك الحكمة الشعبية إلي جوهر الأمر و لبه دون مختبرات و لا أجهزة و لا حامض نووي أو غيره.
إذا سألت أحدا من الناس عن السبب الذي يدعوه للسفر و المغامرة وارتكاب المخاطر فمن غير المحتمل أن تكون إجابته هي أن "الحامض النوويDNA " أو المورثات هى المحرك الرئيس لشغفه بالسفر و المغامرة. و لا تعجب أن صدق العلم الحديث أن حب السفر و الترحال مزروع فعلا في مورثاتنا الجينية. فمن رأي بعض "الخبراء" أن الأوربيين (و الذي هاجروا لأوروبا من القارة السمراء أفريقيا من قبل نحو 60000 عام أو تزيد) لديهم وفرة من المورث (الجين) الذي يعده العلماء "مورث السفر و المغامرة" مقارنة مع أبناء عمومتهم ممن آثروا التخلف (بالمعني البرئ) و البقاء في قارتهم. و مما يلاحظه الذين يدمنون برامج التلفاز الأميركية المخصصة للمتنافسين الذين يركبون الأهوال و يغامرون بأرواحهم من أجل الظفر بجوائز سخية يتسيدها البيض و قلما تري رجلا أو امرأة سوداء تجازف بارتياد تلك المغامرات. و هذه ملاحظة عابرة يعوزها الدليل و البرهان و لا سند لها من العلم، فلقد صار العلم لا يعترف و لا يعتد بغير البرهان و الدليل المترجم إلي أرقام و إحصاءات يمكن الوثوق بها.
اكتشف بعض العلماء في الثمانينات من القرن الماضي أن هنالك مورثا (جينا) معينا (أسموه (DRD4 يتحكم في مادة كيميائية في الدماغ تسمي دوبامين تعمل كناقل عصبي و تنظم مركزا في الدماغ يسمي مركز المكافأة (reward center) و كل الأنشطة المتعلقة بركوب المخاطر و البحث عن الجديد و الطريف. و يعتقد هؤلاء العلماء أن هذا المورث هو المتحكم الفعلي في الهجرات العديدة و حملات الاستكشاف الكثيرة التي حدثت علي امتداد تاريخ البشرية. بيد أن علماء آخرين لا يوافقون علي هذا الرأي و يعتقدون أن هذه الأنواع من البحوث مشكوك في مراميها و أهدافها و في طريقة إنجازها، و لا يمكن تعميمها – حتى و إن صدقت- علي كل المجتمعات البشرية. و قبل عقد من الزمان قامت مجموعة بحثية في جامعة طوكيو بنشر بحث عن الاختلافات بين اليابانيين في توزيع هذا المورث الذي يزعم أنه يتحكم في السلوك الإنساني المحفز للبحث عن المثير و الجديد و الطريف، و أثبتوا توفر هذا المورث الجيني عند اليابانيين مع تفاوت بينهم، بيد أن بحثا في كوريا الجنوبية عام 2006 لم يجد علاقة من أي نوع بين هذا المورث الجيني و الشغف بركوب المخاطر... و في اختلاف العلماء رحمة.
و لكن هل ركن الفلاسفة و علماء الاجتماع و علماء النفس و أخصائي السياحة و السفر لذلك الرأي "العلمي" الذي زعم أنه وضع يده علي السر الدفين الذي يتحكم في الرغبة في السفر و المغامرة. كلا ثم كلا. فلقد كتب كثير من المتخصصين في السفر مؤلفات عديدة عن "سلوك السياح" و قاموا بتحليل الاستبيانات التي ملأها الآلاف السياح عن السبب الذي دعاهم لهجر مدنهم الجميلة و دورهم المريحة وركوب المخاطر و السفر المرهق لمناطق بعيدة و بوادي لا تتوفر فيها وسائل الراحة و الأمن. كان السبب الأول في حبهم للسفر هو البحث عن الجديد و الطريف، و تلا ذلك السبب الرغبة في الهروب من الواقع و كان الدافع الثالث للسفر هو الرغبة في تقوية العلاقة مع رفيق السفر، بينما جاء السبب الرابع مضادا للسبب الثالث و كان هو الرغبة في مزيد من الاستقلالية! و تلي ذلك السبب الرغبة في مشاهدة طبيعة مختلفة ثم تطوير الذات، و أخيرا كان الدافع للسفر هو "الإثارة" مهما يكن للكلمة من معاني! و لعل السبب الأخير هو ما يدفع كبار الأثرياء لدفع الملايين الكثيرة من أجل رحلة في الفضاء الخارجي لا تستغرق أكثر من يومين أو ثلاثة! فما ذكره بعض رواد الفضاء من المتعة و الإثارة التي يجدها المرء عندما ينظر إلي "العالم" من علي بعد، حين يهبط عليه شعور طاغي بوحدة الكون و اتساعه و اتساقه و عظمة خالقه، كل ذلك "يسوي الدنيا بحاله" كما يزعم مغني الشرق الحبيب.
أختم بما خلد ذكره من كلمات الإمام الشافعي من فوائد السفر:
تغرب عن الأوطان في طلب العلى و سافر ففي الأسفار خمس فوائد
قد لا يتفق بعض العلماء ممن ذكرنا مع نصائح ذلك الأمام النابغة، إذ يرون أن دوافع السفر جينية الأصل، و يزعمون أن المرء في الغالب الأعم لن يسافر و يتغرب عن الأوطان إن لم يكن حب السفر و المغامرة و اكتشاف المجهول في مورثاته الجينية، و نحن نقول دوما أن "الطبع (الموروث) يغلب التطبع"، و تلك حكمة شعبية أخري تؤثر المورثات الجينية علي تأثير البيئة!
No comments:
Post a Comment