Saturday, May 12, 2012

فساد الأدوية

لا يخفي أن عنوان هذه السطور يشبه عنوان رواية "فساد الأمكنة" التي صدرت في الستينات من القرن الماضي للكاتب المصري صبري موسي. وليس هذا من قبيل الصدف (إن كان هنالك شئ يحدث بالصدفة في هذا العالم)، إذ أن "فساد الأدوية" مرتبط عضويا بـ"فساد الأمكنة" التي تصنع أو تستورد هذه الأدوية.
 

وقبل الدخول في تفاصيل ما نعنيه بفساد الأدوية أود أن أذكر هنا أن ما سيلي ليست له علاقة مباشرة بما يدور هذه الأيام من صراع في الوسط الصيدلي السوداني وفي أوساط قطاعات من المرضي عن سلامة الدواء في السودان من الغش و التدليس وعن شبهة أو تهمة الفساد التي تطارد جماعات بعينها، وأقول هذا لعدم توفر المعلومات الكاملة لي عن هذا الأمر، وهو أمر جلل لا يجوز أن يؤخذ (لفحا) هكذا كما يفعل بعض الكتاب بقصد السبق الصحفي أو الإثارة أو كليهما. القصد هنا أن يعي جمهور القراء الكرام مدي تفشي أمر الفساد والغش والتدليس في عالم الأدوية. ويعجب المرء ممن يكثرون الحديث عن الأدوية العشبية/ الشعبية التي ينادي بها الصبية في الأسواق وتوضع علي رمال أرصفة الطرق ووسط "كتاحاتها" اللاهبة، ويحذرون من أنها سامة وعاطلة عن الفعالية، ولا يتحدثون عن ما نجده مصفوفا في الصيدليات المظلمة لساعات طوال بسبب إنقطاع الكهرباء، والتي تنبعث منها روائح مختلطة من المطهرات والعطورات (في لغة أهل الخليج المعاصرين) والأدوية ذات الأغلفة الجذابة ويعلم الله وحده كم منها ما هو مغشوش وما هو عديم الفعالية وما هو صريح السمية. بيد أن هذه الأدوية مصنعة دوائيا بصورة مقبولة ومغلفة بأغلفة ملونة زاهية وسعرها باهظ يدفع المريض دفعا للتصديق بأن فيها الشفاء الأكيد (وصاحب الحاجة أهوج)!
 

نبدأ بتعريف ما نعنيه بقولنا "الأدوية المغشوشة" أو "المزورة"، فهي بحسب تعريف لمنظمة الصحة العالمية تلك الأدوية التي تدخل في تصنيعها – عمدا-  مكونات غير فعالة أو خاطئة أو ضارة، وتكون عادة مصنعة ومعبأة يصورة توحي بأنها "أدوية حقيقية"، وهي ليست كذلك بالطبع، ففيها تركيز للمادة الفعالة يختلف عن الأدوية الحقيقية مما يجعلها تفشل في إحداث العلاج المطلوب، وقد تدخل في تركيبها مادة أو مواد ضارة بالصحة أو سامة، وقد تكون ملوثة بما هو مضر بالصحة، أو قد تكتب عليها إرشادات خاطئة للمريض قد تؤدي للإضرار به و جعل حالته الصحية أسوأ مما كانت عليه من قبل، وقد تكون معبأة بطريقة خاطئة. و أشد ما يكون أمر الغش في الأدوية نكرا عند التلاعب في الأدوية المنقذة للحياة، وذات ارتباط بأمراض تصيب القاطنين في المناطق المدارية الفقيرة مثل مرض الملاريا. ويزيد الأمر نكارة واستهجانا أن مستهلكي هذه الأدوية (بل وحكوماتهم الفقيرة والفاسدة في أحيان كثيرة) لا قبل لهم ولها بمعرفة الدواء المغشوش من السليم الذي لم تمتد إليه اليد الآثمة، إذ أن الأمر يتطلب تحاليل كيمائية بأجهزة  دقيقة لا تبتاعها الدول الفقيرة عادة، وتؤثر عليها شراء الفاخر من سيارات الدفع الرباعي لذوي الشوكة والمتنفذين فيها، و يتطلب الأمر أيضا علماء أكفاء  أمناء نزهاء من ذوي الضمائر الحية الذين يستعصي شراؤهم بالمال أو بالمنصب. وبالطبع يتطلب الأمر كذلك تفعيلا للقوانين التي تحاكم المخطئ حكما عادلا يعتمد علي الحقائق المجردة وليس بالظن الذي لا يغني عن الحق شيئا. ففي مقال نشر في عام 2008 م في العدد الخامس من "مجلة الصحة العامة في شرق أفريقيا" كتب أحدهم مقالا أعاد فيه اكتشاف العجلة وكرر ما هو معلوم للكافة من ضعف الرقابة الصيدلانية وشيوع الفساد في سوق الدواء في بلاده (وفي أفريقيا علي وجه العموم)، وكيف أن علي حكومات أفريقيا أن تلعب دورا أكبر في مكافحة الغش والتزوير والتدليس في الأدوية وذلك بإنشاء المختبرات القادرة علي تمييز الخبيث من الطيب من الأدوية المحلية الصنع، والمستوردة، وتلك الممنوحة من حملة "عبء الرجل الأبيض" من "ذوي القلوب الرحيمة" الذين تشمل عطاياهم الدوائية فيما تشمل أدوية منتهية الصلاحية، وأخرى لا يسمح بتداولها عندهم، وأيضا بما ليست لنا به حاجة مثل مراهم للمسح وشاشات تقي من أشعة الشمس (sun screens) لأناس سود البشرة يموت منهم يوميا ثلاثون الفا بسبب الأمراض المعدية... قوم أذاب الجوع شحمهم ولحمهم ودق العظام. وختم الرجل الأفريقي مقاله بتقرير ما هو معلوم بالضرورة من أنه من غير المقبول أخلاقيا أن تترك الحكومة "شعبها" يتناول أدوية مشكوك في سلامتها ولا تتلزم بالمواصفات العالمية للأدوية الآمنة الفعالة. حسنا... كلنا ندرك ذلك، بيد أن الشيطان في التفاصيل (كما يقولون). ما العمل لتحقيق ذلك، و الحال كما نرى؟ لا أدري ما سبب إهتمام الفرنسيس أكثر من غيرهم من الشعوب البيضاء بأمر فساد الأدوية في العالم الثالث، ولكن كتب أحد هؤلاء في مقال له بعنوان "نوعية الأدوية في الدول الأقل نموا" نشر في عام 2006 م في مجلة (Med Trop) الفرنسية أن الحل يكمن في إقامة تنظيم محكم ومنطقي في كل دولة يحكم عمليات شراء الأدوية وسياسات توزيعها مع اهتمام فائق بالجودة الشاملة في كل مرحلة من مراحل تسلسل الطلب حتي يتسنى أن نضمن وصول دواء حقيقي وآمن وفعال للمريض. بيد أن هذه "الوصفة" معمول بها ومجربة منذ سنين في عديد الدول دونما تأثير يذكر علي فوضى سوق الدواء الضارب الأطناب.   
 

لا يعرف علي وجه الدقة مدى انتشار هذه الأدوية الفاسدة أو المزورة. بيد أن معظم الخبراء يتفقون أن ما لايقل عن 10% من الأدوية المباعة في الأسواق العالمية مزورة أو مغشوشة، ويرتفع هذا الرقم بالطبع في الدول الأقل نموا. ولعلنا لا نعدو الحقيقية إن قلنا أن أكثر من ثلث إلي نصف الأدوية المتوفرة في أسواق بعض الدول النامية (هل قلت النايمة؟) إما مغشوشة أو مزورة، و هذه الإحصائية التقريبية ليست من نسج خيالي وإنما وردت في بحث لطبيب (أو صيدلي) فرنسي في عام 2008 م في مجلة أسمها (Comptes rendus biologies)؛ وتجارة الأدوية الفاسدة أو المزورة تجارة رائجة قدرتها منظمة الصحة العالمية في عام 2003م بأن سوقها يتعامل بما يفوق 32 بليون (ألف مليون) دولار أمريكيا.. فتأمل كيف يكون الحال اليوم مع ما نعلم من أزمات ونكبات اقتصادية أصابت العالم بأسره.
 

من أين تأتي تلك الأدوية الفاسدة (وتشمل الأدوية المغشوشة والمزورة وكل ما هو غير دواء قانوني مجاز)؟ يمكن القول بأن تلك معظم الأدوية تصنع في الهند (الصديقة، في قول لتاج السر الحسن) إذ تحتكر هانئة راضية صناعة ثلاثة أرباع (75%) ما يباع في العالم من أدوية مغشوشة أو مزورة، وهذا الرقم مأخوذ من تقرير لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، تتلوها روسيا (التي دنا عذابها)، والتي زعم تقرير صادر من إحدى المنظمات فيها أن 12% من أدويتها مزور أو مغشوش، ولم تنج امريكا (التي دنا عذابها هي الأخري) وهي الدولة الأشد صرامة في أمر القوانين الدوائية من آفة الغش والتزوير في مجال الأدوية، مما حفز الكونجرس لاستدعاء علماء منظمة الأغذية والأدوية في عام 2005 م لاستجلاء الأمر الجلل. وقرأت ذات مرة أن هنالك "مصانعاً" سرية للأدوية في إيطاليا مخبوءة في أماكن نائية تشبه "الورش الصغيرة" تعبأ فيها أدوية مغشوشة في عبوات ملونة راقية جاذبة. إذن فالمشكلة عالمية الطابع، بيد أن انتشارها وضررها علي عالمنا الثالث أشد وأنكي؛ فالنظم الصحية غير موجودة أو منهارة والخدمات الطبية غير متوفرة أو شحيحة جدا، فيجد المريض الجاهل والمعدم في ذلك العالم المعذب المنكود نفسه بين سندان بائع الوصفات الشعبية (المشكوك في أمانها و فعاليتها) ومطرقة الصيدلي صاحب الرداء الأبيض والذي يبيع الأدوية المصنعة (وفيها الصالح والطالح وما دون ذلك) وليس في وسعه التمييز بين صحيحها و فاسدها.
 

الفساد في عالم الأدوية في عالمنا الثالث إنعكاس لفساد عام "باض وأفرخ" و"ناخ بكلكليه" إلي غير ذلك مما ندمن من مكرور التعابير ومحفوظ  الكلام. قال الشاعر:
   
 أرَى فِتْنةً هاجَتْ وباضَتْ وفَرَّخَتْ ** ولو تُرِكتْ طارَت إليها فراخَها

No comments:

Post a Comment