الكاتب: كينقزسلي إيمس
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
نبذة قصيرة عن المؤلف: السير كينقزسلي وليامس إيمس (1922- 1995) روائي وشاعر وناقد ومدرس بريطاني ولد ومات في لندن بعد أن عاش في مختلف المدن البريطانية وفي الولايات المتحدة. درس الإنجليزية في جامعة أكسفورد، وعمل في مختلف المهن في مجال الكتابة الأدبية والعلمية والصحفية. اشتهرت أعماله الأولى بأنها "كوميدية" الطابع. كان يساري الاتجاه في بداية عهده بأكسفورد، وتحول من بعد ذلك لحزب العمال، وانحرف (أو اعتدل) يميناً مع تقدمه في العمر حتي صار في أخريات سنينه من أشد الناس عداوة للشيوعية.
تميزت حياته الخاصة بالاضطراب حيث كان مغرماً بالشرب والتنقل الدائم بين الزوجات والعشيقات.
القصة القصيرة التالية (التي كتبها المؤلف في 1972م) قد يدرجها النقاد تحت باب "الخيال العلمي" أو الأدب الإستيهامي (الفانتازيا).
"هل لي أن أجلس معك؟"
وقف "بيتيقرو" وهو قابض علي كوب ضخم من البيرة أمام طاولة الرجل الربعة ذو الوجه الخالي من أي صفة مميزة، وهو في ملابس عادية لا تلفت النظر، منتبذاً ركناً قصياً في الحانة. كان "بيتيقرو" رجلاً طويلاً وسيماً قسيما يحمل علي وجهه المميّز علامات لا تشجع علي القبول والتجاوب، بيد أن الرجل الآخر أجابه في ود بائن:
" بالطبع... تفضل بالجلوس".
"هل يمكنني أن أحضر لك شيئاً؟"
رد الرجل الربعة وهو يشير إلي كوب البيرة الضخم الموضوع أمامه: "لا... ليس الآن. أشكرك".
كان المشرب كما هو العهد به يموج بالنادلة والشاربين فرادى وأزواجاً وليس فيه من شئ يلفت النظر.
"هل تقابلنا من قبل؟"
"لا، لا أذكر أننا تقابلنا"
"حسناً...حسناً. اسمي بيتيقرو. دانيال بيتيقرو. ما هو اسمك؟"
"ميسون. جورج هيربرت ميسون، إن اردت الاسم كاملا"
"حسنا...هذا أفضل...هل توافقني؟ يا جورج...هيربرت... ميسون". نطق هذه الكلمات القصيرة وكأنه يريد أن يودعها ذاكرته للأبد. "الآن هل لي بمعرفة رقم هاتفك؟"
بدأ "ميسون" يحس ببعض الضيق من سلوك "بيتيقرو" المتطفل، بيد أنه آثر أن يجيب بالقول:
"يمكنك أن تجد رقمى بسهولة في دليل الهاتف العمومى".
"لا... قد يكون هناك أكثر من شخص بهذا الاسم في دليل الهاتف. يجب أن لا نضيع الوقت. من فضلك".
" حسنا...حسنا. إنها معلومات متاحة للجميع علي كل حال. الرقم هو أثنين... ثلاثة...أثنين..."
"خمسة- أربعة- خمسة-أربعة"
"يا للحظ السعيد. يمكنني حفظ هذا الرقم السهل."
"لماذا لا تكتبه عندك إن كان يهمك لهذه الدرجة؟"
عند ذلك صك "بيتيقرو" وجهه، ثم بدت عليه مظاهر خيبة الأمل وقال: "ألا تدري أن ذلك عديم الفائدة؟ علي كل حال الرقم هو أثنين- ثلاثة-أثنين- خمسة- أربعة- خمسة-أربعة. هل أعطيتك رقمى؟ إنه سبعة..."
نفذ صبر "ميسون" ورد بالقول: "لا أريد رقمك يا سيد بيتيقرو. لابد من القول أنني نادم بالفعل على إعطائك رقمي".
"ولكن لا بد لك من أن تأخذ رقمي".
"كلام فارغ. لماذا يجب علي ذلك؟. لا تستطيع إجباري"
"عبارة. لا بد لنا من عبارة ما نتبادلها عند كل صباح"
"هل لك أن تخبرني بما ترمي إليه؟ ماذا في الأمر؟"
"من فضلك. وقتي ضيق ويمر بسرعة".
"لماذا تكرر ذلك؟ ماذا تعني بكلمة وقتنا؟ وقتنا لأي شئ؟"
"في أي لحظة يمكن لأي شئ أن يتغير، وقد أجد نفسي في لحظة في مكان آخر تماماً... وربما يحدث لك ذات الشئ. أشك كثيرا في أن...."
"يا سيد بيتيقرو... إما أن توضح قولك وتفسر علي الفور، أو أن أطلب إبعادك من هنا"
أجاب "بيتيقرو" وقد علا وجهه الإحباط أكثر وأكثر: "حسناً... أرى أن غضبك لن يغير من الأمر شيئاً. عندما بدأنا نتحدث معاً كنت أحسبك شخصاً حقيقياً، وذلك بسبب الطريقة..."
رد "ميسون" حانقاً وبحدة ظاهرة: "دعك بحق الإله من هذا الكلام المكرور المحفوظ. أتعتقد أني شخص غير حقيقى؟"
"لا اقصد أني أحب ذلك. أقصد ذلك بأكثر المعاني حرفية"
"هل أنت مجنون أم ثمل أم ماذا؟"
"ليس بي سكر أو جنون. فقط أشعر بالنعاس"
لم يصدق "ميسون" أذنيه فقال: "نعسان!؟"
"نعم. كما قلت في المرة الأولى لقد حسبتك شخصاً حقيقيا آخر في نفس وضعي: غارقاً في النوم ويحلم، ويعلم ما يدور حوله، بل وحريص على أن يتبادل الأسماء وأرقام الهاتف وهكذا بغرض التواصل في اليوم التالى وتأكيد التجربة المشتركة. سيثبت هذا شيئاً مهماً عن العقل. أليس كذلك؟ يتواصل الناس في الأحلام. من المؤسف أننا نادراً ما نحقق ما يدور في أحلامنا. لم يتأتى لي أن أحاول تلك التجربة إلا نحو أربع أو خمس مرات خلال العشرين عاماً الماضية، ولم أنجح قط، فلقد كنت إما أن أنسي التفاصيل، أو أن اكتشف أن الشخص ليس موجوداً، كما هو الحال الآن. بيد أني سأواصل..."
"يا لك من شخص مريض"
"أبداً. هذا ليس بصحيح. من الممكن تصور وجود شخص مثلك، بيد أن ذلك مستبعد، وإلا لكنت قد تعرفت علي حقيقة الوضع علي الفور بدلاً عن معارضته كما تفعل الآن. كما قلت قد أكون مخطئاً."
هدأ "ميسون" قليلاً واشعل سيجارة ببطء وقال: "إنه لمما يبعث علي الأمل أن تعترف بهذا. لا أعرف كثيراً عن هذه الأشياء، بيد أنك لن تبتعد كثيراً عن الحقيقة إن اعترفت بخطئك. دعنى اؤكد لك الآن أنني لم أكن في داخل عقلك إلا منذ خمس دقائق فقط. إن اسمي كما سبق وأن أخبرتك هو جورج هيربرت ميسون. عمري ستة وأربعون عاما. متزوج ولى ثلاثة أطفال، وأعمل في مجال صناعة الأثاث... لو أردت أن أعطيك نبذة مختصرة عن حياتي حتى هذه اللحظة فسيستغرق الأمر الليل كله، تماما كما هو الحال بالنسبة لأى شخص ذي ذاكرة متوسطة. دعنا نكمل كأسينا ونذهب لمنزلى، وهناك يمكننا_________".
رد "بيتيقرو" بصوت عال: "إن أنت إلا رجل في حلمي يقول ذلك. أثنين- ثلاثة-أثنين- خمسة- أربعة- خمسة-أربعة. سأتصل بهذا الرقم لأرى إن كان رقما حقيقيا، وإن كنت أنت الذي سيجيب من على الطرف الآخر. أثنين- ثلاثة-أثنين- خمسة___________"
"لماذا أنت غاضب وقلق لهذا الحد يا سيد "بيتيقرو"؟"
"بسبب ما سيحدث لك في أي لحظة."
"ما سيحدث لي؟ ما الذي يمكن أن يحدث لي؟ هل تهددني؟"
بدأ "بيتيقرو" يتنفس بسرعة زائدة، وبدت عضلات وجهه الرقيق التقاطيع في التقلص. وبدت حتى الأشكال المصممة في سترته في البهتان والاختفاء.
صرخ "بيتيقرو" فجأة: "الهاتف! لقد تأخرت أكثر مما تصورت".
كرر "ميسون" قوله وهو يصك وجهه ويرى حال "بيتيقرو" يتغير فجأة: "الهاتف؟"
"الهاتف الذي بجانب سريري. إنني أستيقظ!"
أمسك ميسون محدثه من ذراعه، بيد أنه لم يمسك شيئاً، إذ أن محدثه اختفى كلمحة ضوء خافت. عندما نظر "ميسون" إلي اليد التي قبضت علي محدثه... يده هو نفسه... رأى وبصعوبة بالغة أنها عديمة الأصابع... ليس لها مقدمة أو مؤخرة... ليس لها جلد أو أي شيئ آخر.
No comments:
Post a Comment