Saturday, May 12, 2012

باسم الشرف: قصة (مختار ماي) الناشطة "الجندرية" الباكستانية

(مختار ماي) شابة باكستانية في عقدها الثالث، عاشت طوال حياتها في قرية ميروالا الصغيرة في جنوب البنجاب بالقرب من الحدود مع الهند. هذه الفلاحة الأمية من قبيلة "الججار" والتي تنتمي لطبقة تقبع في أسفل السلم الاجتماعي، دخلت التاريخ النسوي (والإنساني علي وجه العموم) بسبب ما تعرضت له من أذى نفسي وجسدي بشع من غير ذنب جنته؛ وذلك بسبب حكم قضائي من محكمة قبلية أهلية قضت بأن يتم اغتصابها مرات عديدة، وبالتتابع من قبل رجال قبيلة أخرى تعد أرفع قدراً ومكانة من القبيلة التي تنتمي إليها الفتاة الضحية، قبيلة ذات نفوذ وسطوة وشراسة.
شغلت قضية هذه المرأة الصحافة المحلية والعالمية لعدة شهور في عام 2002م، وكان من الممكن أن ينتهي الأمر عند هذا الحد؛ بيد أن هذه الفتاة الأمية المسكينة، وبشجاعة فائقة وتصميم لا نظير له، رفضت الاستكانة لحالة كونها "ضحية" لا حول لها ولا قوة، فأبت إلا أن تكون أول امرأة في وطنها تناضل لتستعيد شرفها ولتقاوم التقاليد البربرية التي كادت أن تقضي عليها.
تتلخص القصة والتي وقعت أحداثها الأليمة في يونيو عام 2002م، في أن قدر (مختار ماي) التعيس جعل من شقيقها عبد الشكور، والذي لا يزيد عمره عن اثني عشر عاماً، محور مواجهة مع رجال قبيلة "ماتوس" ذات السطوة والجبروت، والتي اتهمته بمغازلة، أو التحدث إلى ابنة لهم يزيد عمرها عن العشرين عاماً. مما زاد الأمر تعقيداً أن "عبد الشكور" رد التهمة بقوله إن قصة علاقته بتلك البنت قد لفقت للتستر على واقع أنه تعرض للاعتداء الجنسي من قبل ثلاثة رجال من قبيلة "ماتوس" في وقت سابق من اليوم ذاته؛ وهدد بالإفادة عن الحادثة. ويبدو أن لرجال تلك القبيلة غراماً خاصاً بالاغتصاب الجماعي، إذ أن كبراء مجلسهم القبلي (والذي يطلق عليه باللغة المحلية اسم "بانتشيات"، في قرية ميروالي، بالقرب من مدينة مظفر جاره) أصدروا أمراً بالقيام بالاغتصاب الجماعي لفتاة من قبيلة المتهم عندهم (عبد الشكور) عقابا لعائلته، ورداً لشرفهم (المزعوم). أصر عبد الشكور – هو وعائلته - على أنه بريء مما نسب إليه. رفع الأمر في البدء إلى الملا (القاضي الديني المحلي) الشيخ/ عبد الرزاق، والذي اسقط في يده، إذ أن القبيلة الشاكية ذات نفوذ وسطوة، ورجالها مسلحون شرسون، وهم يشكلون الغالبية العظمى في مجلس القرية، وقد رفضت الصلح وأبى رجالها إلا أن يأخذوا القانون في أيديهم.
أتى حل وسط بأن تمثل أمام رجال قبيلة الماتوس امرأة من قبيلة عبد الشكور "الجوجار". اجتمعت العائلة الملتاعة، وقلبت الأمر من كل ناحية واستقر رأيها على أن تمثل (مختار ماي) أمام أولئك "الأشاوس" لتقنعهم ببراءة شقيقها، أو حتى لتعتذر. سألت والدها في حيرة وفزع: "ولماذا أنا بالذات"؟ جاءها الرد سريعاً وحاسماً من والدها وخالها: "إن الأخريات أصغر عمراً! وأنت مطلقة وليس لديك أطفال، وأنت حافظة لكتاب الله تدرسينه للصغار، وأنت امرأة محترمة"!. وبينما كان "عبد الشكور" خلف قضبان حراسة الشرطة، مضت (مختار ماي) تقدم رجلاً وتؤخر أخرى "لتمثل" أمام "مجلس" مكون من كبار رجال قبيلة الماتوس. ذكر لاحقاً أن أحدهم نادى بالعفو عنها، ولكن رجلاً آخر (أكثر نفوذاً) أصر على وجوب اغتصابها وفوراً. ووصفت مختار ماي لاحقاً كيف أنها توسلت إلى رجال ذلك المجلس لكي ينقذوها، واستحلفتهم بالله وبالقرآن الذي كانت تتشبث بنسخة منه، أن يدعوها وشأنها، بيد أن كل ما تفوهت به من رجاء ومناشدة وصيحات استغاثة وقعت على آذان صماء. شمر أربعة من "الأشاوس" عن ساعد الجد فمضوا في اغتصابها بعد أن مزقوا ملابسها بوحشية حيوانية وهي تصيح وتستغيث إلى أن خرت قواها. ولما تم إنجاز "المهمة التاريخية" تركوها نصف عارية ونصف مغمى عليها، بينما لم يجرؤ أحد من أصحاب القرية على أن ينبس ببنت شفة، ناهيك عن أن يهب للدفاع عنها ومنع اغتصابها. أفاقت من صدمتها وهي دامية دامعة ونصف عارية. لم يملك والدها العاجز المكلوم غير أن يخلع شاله ويلقيه على جسدها المنتهك وينصرف مطأطأ الرأس. جرجرت قدميها نحو دار أبيها وهي تدمع وتدمي حيث تحاشتها كل العيون (ربما خجلاً أو فزعاً). كان وحوش تلك القبيلة الباغية يتوقعون أن تقدم الضحية – كما هو راسخ في تقاليدهم - على الانتحار درءاً للفضيحة وللحفاظ على "شرف العائلة" الذي دنسه المغتصبون! بيد أنه كان لـ (مختار ماي) رأي آخر. عزمت تلك المرأة الشجاعة على أن تحول مأساتها الشخصية لأمر عام من أجل تسليط الضوء على قضايا شائكة راسخة القدم، تتداخل فيها التقاليد وسطوة الجنس (ذكر/ أنثى) والمال والقبيلة، مع عدم احترام القانون والفروقات الشاسعة في ترتيب السلم الاجتماعي بين سكان البلد الواحد، حيث تجد أصحاب النفوذ القبلي والجاه المكتسب بسبب العرق أو الثروة أو الأغلبية العددية لا يرقبون في أولئك الذين قذفت بهم الأقدار إلى أسفل السلم الاجتماعي إلاً ولا ذمة لخساسة (مفترضة) في الأصل، أو قلة في المال أو العدد أو غير ذلك.
بعد أسبوع كامل من واقعة الاغتصاب وجد أهل (مختار مي) في أنفسهم بقية من شجاعة مكنتهم من فتح بلاغ ضد البغاة. ولما سرى الخبر ووصل لأسماع الصحافة المحلية (ومن ثم للصحافة العالمية) أخذت القضية منحى آخر. فلولا رحمة ربي وشدة بأس من تولوا إثارة قضية الضحية لماتت القضية في مهدها كما حدث لنحو 150 حالة اغتصاب جماعي مشابه قيل أنها حدثت في نفس المنطقة من جنوبي البنجاب في الأشهر الستة الأولى من ذلك العام فقط. (ويبدو أن سلاح الاغتصاب عند هؤلاء الناس – وهم مسلمون للأسف - شائع الاستعمال)! ثارت ثائرة ناشطات من الباكستان والعالم الغربي لينال المغتصبون جزاءهم العادل؛ وهذا ما حدث بالفعل، إذ أعدم بعض الجناة. بيد أن الأمر الأكثر أهمية أن (مختار ماي) (تلك الضحية البريئة) قد نجحت في كسر حاجز الخوف من "الفضيحة"، والذي كان يؤدي لعدم إثارة مثل هذه القضايا ودسها تحت "سجادة التقاليد البالية" طلباً لستر مزعوم؛ حيث طافت مختار ماي على قرى ومدن الباكستان وخارجها تخطب في الناس وتحدثهم عما حاق بها، وتدعوا لنبذ الخوف وكشف "المستور" من الفظائع التي ترتكب باسم الشرف، وهو منها براء. لم يمنعها من ذلك ما أدلى به الرئيس (حينها) برويز مشرف من أنها ترسم للعالم "صورة سيئة" عن بلادها؛ بل وحظر سفرها للخارج عام 2005م (وكأنه كان من الخير لبلاده أن تحتفظ بمثل تلك الممارسات التي لا يقرها دين أو عرف أو أخلاق دون إعلان خشية الفضيحة!) ما له كيف يحكم؟!
من ما يسر له أن تلك المأساة الرهيبة التي تعرضت لها (مختار ماي) لم تغير من نظرتها للعالم وللرجال بصفة خاصة، فلقد جاء في الأنباء أنها قد اقترنت في مارس عام 2009م  بحارسها الشخصي الشرطي غابول، والذي أحبها وكان يلح في طلب يدها منذ عدة أعوام لتصبح زوجة ثانية له، ولتنقذ (بحسب كلامها) زوجته الأولى من الطلاق، ولتضمن أن لا ينفذ ذلك العاشق الولهان تهديده بالانتحار إن لم تقبل الاقتران به. إن كان من محمدة لهذه "الناشطة الجندرية" تحسب لها، أنها وضعت شروطا أمام غابول قبل الزواج به منها أن عليه أن ينقل ملكية المنزل الذي ورثه عن أسلافه إلى زوجته الأولى، وأن يوافق على منحها قطعة أرض، إضافة إلى مرتب شهري قيمته نحو 125 دولاراً، وأن يبقى مع زوجته الأولى، وأن يأتي إليها وقتما يشاء.
هذا الجانب الأخير من حياة الناشطة (مختار ماي) قد لا يريح من كانوا يعجبون بها وبشجاعتها ضد التسلط القبلي الذكوري الباغي الذي كاد أن يحطم حياتها. بيد أنه من المهم أيضا تذكر الوضع الاجتماعي الحرج الذي وضعتها فيه حادثة الاغتصاب الجماعي الذي تعرضت له في مجتمع كان يتوقع انتحارها، بحيث تصبح حالة قبولها بالزواج من رجل متزوج أقل وطأة مما لو كانت تحت ظروف أخري مختلفة.

No comments:

Post a Comment